شعار قسم مدونات

نساء في الخيام!

تتجمع العائلات الفلسطينية النازحة في ساعات المساء من كل ليلة، حول نيران أوقدوها بجوار خيام مؤقتة في مدينة رفح أقصى جنوب قطاع غزة بالقرب من الحدود المصرية، بحثًا عن الأمان المفقود في ظل استمرار حرب إسرائيلية مدمرة لا تعرف القيود ولا تلتزم بتحذيرات ولا بقانون إنساني. ويعاني النازحون في مخيمات النزوح في رفح، أشد المعاناة في ظل البرد القارس والظلام القاتم، وتتجسد معاناتهم، في مواجهة الظروف القاسية والتحديات الكبيرة. وتعتبر رفح من أكثر المناطق اكتظاظاً بالسكان في قطاع غزة، بعد إجبار الجيش الإسرائيلي الفلسطينيين من سكان مدينتي خان يونس وغزة ومحافظة شمال القطاع على النزوح إليها بذريعة أنها منطقة آمنة. ( Abed Rahim Khatib - وكالة الأناضول )
أحزان متفرقة ألملمها لأنسج صورة البؤس في غزة أينما يدير المرء وجهه (وكالة الأناضول)

من بعد نزوحي من شمال قطاع غزة إلى جنوبه في رفح تعاملت مع الكثير من النساء وتعرفت على قصصهن المؤلمة، كل قصة هي مأساة حقيقية سببها هذا العدوان الهمجي على كل ما هو حي في غزة، وسأُخبركم ببعضِ حكاياتهن الصعبة.

  • أم محمد

جارتنا في الشمال، رأيتها صدفة وجلست معها في خيمة، وضعها صعب بشكل لا يوصف، تجلس على الرمل ولا يوجد ما يقيها البرد أو المطر، تحدثنا عن الكثير من الأمور، وبعدها بقليل قالت لي: "شفتي يا نور ابني عبد الله كيف استشهد؟"، سرت الجملة مثل قطع الجليد في دمي، لم أدرِ ماذا سأجيبها! تحدثت بهدوء بالغ أربكني، سألتها عن تفاصيل استشهاده، فقالت أن القناص أطلق عليه رصاصة، وظل ينزف أمامها دون أن تستطيع إنقاذه بأي شكل، حتى نزف ونزف وارتقى أمام عينيها، وهي اليوم تجلس في خيمة مع زوجها الكبير في السن، تبكي ولدها ولا حيلة لها في شيء سوى انتظار انتهاء هذه الإبادة

طفلتها زكية بلغت عامها الثاني وما زالت ترضع منها، قلت لها لماذا لم تفطميها بعد، ألم يحن الوقت؟ كان جوابها صادما وقاتلً، قالت لي أنها لا تملك المال لتشتري لها طعاما مناسبا

  • زينب

صبية في مقتبل عمرها، أم لطفلين جميلين: سند وزكية، اعتقال الاحتلال زوجها عند الحاجز الذي يقيمه على طريق النزوح من شمال القطاع إلى جنوبه، وكان هذا منذ أكثر من شهرين، وهي للآن لا تعرف أي خبر عنه، لا تعرف حتى إن كان على قيد الحياة أم لا! لكنها مجبرة رغم حرقة الحيرة وصعوبة الفقد أن تستمر في توفير أدنى مقومات الحياة لطفليها، فهي من تنقل الماء من مسافات بعيدة بنفسها، لتجلب كمية قليلة للشرب والاغتسال، وهي من تبحث عن الطعام، وهي المسؤولة عن جميع الأعمال الشاقة في خيمة خفيفة كارثية، تنام فيها والديدان تتحرك بين طفليها في صورة يصعب كثيرا تخيلها لمن لم يعشها. طفلتها زكية بلغت عامها الثاني وما زالت ترضع منها، قلت لها لماذا لم تفطميها بعد، ألم يحن الوقت؟ كان جوابها صادما وقاتلً، قالت لي أنها لا تملك المال لتشتري لها طعاما مناسبا، وأنه ليس من المعقول أن يكون أول ما تتناوله ابنتها بعد الفطام لحوم مصنعة سيئة الطعم وفول ومعلبات.

أخبرتني أنها أصبحت تتبول على نفسها من الخوف، ولا تملك أي شيء تساعد به نفسها، وتعيش لوحدها في نزوح قاس ولا تعرف عن أولادها أي خبر يطمئن بالها.

  • السيدة نسرين

صادفتها ذات مرة وأنا أعرف عن نفسي لموظف في مخازن الأونروا "وكالة الغوث الدولية"، ليسمح لي بإجراء مقابلات مع النازحين، وخلال حديثي معها وجدت السيدة نسرين وهي تبكي، فطلبت منها أن تحكي لي قصتها، وما روته لي كان الأصعب من بين كل ما سمعته وعشته. فقد كان جيش الاحتلال قد اعتقل نسرين لمدة ثلاثة أسابيع كاملة، ولم يكترثوا لكونها امرأة أبدا، فقاموا بضربها وإهانتها، حتى أنهم جردوها من ملابسها قسرا أمام الجميع، وأخذوا منها أولادها الشبان، وحتى حديثي معها لم تكن تعلم مصيرهم أو ما حل بهم، ولم يكتفوا بذلك بل قاموا بسرقة كل ما كان لديها من مال كانت قد ادخرته لتذهب في عمرة إلى بيت الله الحرام، وتركوها الآن تعاني من شبح ما عاشته، وعقلها لا يستطيع استيعاب ما حدث معها، فأخبرتني أنها أصبحت تتبول على نفسها من الخوف، ولا تملك أي شيء تساعد به نفسها، وتعيش لوحدها في نزوح قاس ولا تعرف عن أولادها أي خبر يطمئن بالها.

  • أم أحمد

تبكي حالتها وأبكي أنا معها، تعيش في خيمة حجمها صغير لا تكاد تكفي ثلاثة أشخاص، ولكن يسكنها أكثر من خمسة عشر شخصا، يبعد عنهم أقرب مرحاض مسافة عشرين دقيقة مشيا. لديها ابن من ذوي الاحتياجات الخاصة، اسمه رضا وعمره عشرون عاما، يجلس على كرسي متحرك دائما، ولكنهم نسوا كرسيه في شمال القطاع تحت وطأة النزوح والخوف، وعندما يحتاج رضا أن يقضي حاجته فإن أم أحمد تجره من خيمتهم حتى المرحاض، ويزحف هو في محاولة لمساعدتها. كل تلك المأساة وهذه السيدة تعاني من أمراض عديدة تكشفت أثناء الحرب، منها أكزيما في يديها، ومشكلة في الغضروف في رقبتها لكثرة نقل ابنها من مكان إلى مكان، وآلام متفرقة في العظام لنومها على الرمل دون أي شيء تحتها.

  • السيدة نيفين

كانت حاملً في شهرها الثامن عندما نزحت من الشمال إلى الجنوب، وفي طريق نزوحهم اعتقل الاحتلال زوجها عن الحاجز، وظلت هي وحيدة مع أطفالها الخمسة وطفلها السادس الذي في رحمها، حتى ولدته في خيمة دون أن يساعدها أحد، في افتقار لأدنى مقومات الحياة من طعام أو ماء أو ملابس للطفل، وفي غياب والده عنه.

يأتي بعدها طبيب مر صدفة ويتفحص عاهد فيكتشف أنه ما زال على قيد الحياة! وبرحمة من الله تمكن من إنقاذ حياته، لكن عاهد أصيب بشلل ولن يكون قادرا على تحريك جسده المتعب أبدا.

  • أم عاهد

أخبرتني عن قصتها المؤلمة، فعندما كانت في شمال القطاع وهي تغلق باب بيتها للنزوح إلى مكان آخر، وإذ بقذائف المدفعية المتوحشة تنطلق بشكل عشوائي باتجاه الجميع، وعندما توقفت للحظة وإذ بمدفعية تتقدم باتجاههم بشظايا غطت المكان حولهم بالكامل. كان زوجها العم أبو عاهد بجانبها، وأصيب على الفور وسقط على الأرض بين يدي زوجته، وكان الدم يتدفق من جسده كأنه نافورة مياه! أخبرتني أنها احضنته وهي تصرخ بأعلى صوتها: "يوسف.. يوسف! ما تروح يا يوسف الأولاد بدهم إياك، وأنا كمان بحاجتك يا يوسف!"، وبعد ساعة كاملة من النزيف وعدم القدرة على إسعافه فقد أبو عاهد الكثير من الدم، واستشهد وهو في حجرها. قامت أم عاهد وهي تصرخ في كل اتجاه، لتجد ابنها الأكبر عاهد ممدا على الأرض وينزف كما نزف والده تماما، في لحظتها ظنت أنه استشهد وأنها فقدته. بعدها تمكنوا أخيرا من الوصول بعاهد ووالده إلى المستشفى، أخبرها الممرض وقتها أنهما فارقا الحياة مع الأسف، ليأتي بعدها طبيب مر صدفة ويتفحص عاهد فيكتشف أنه ما زال على قيد الحياة! وبرحمة من الله تمكن من إنقاذ حياته، لكن عاهد أصيب بشلل ولن يكون قادرا على تحريك جسده المتعب أبدا.

أحزان متفرقة ألملمها لأنسج صورة البؤس في غزة، أينما يدير المرء وجهه هنا يجد فقدا ودموعا شققت عيون أصحابها، وكل فرح النساء وسعاداتهن ودلالهن قد تحول إلى دائرة مفرغة من الفقد والشقاء لا يستطيع العقل تصورها.

لكن نقول لكم جميعا هنا غزة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.