شعار قسم مدونات

فلسطين بعيون عراقية

مظاهرات العراق
مظاهرات في العراق لدعم القضية الفلسطينية (الجزيرة)

لن تمر بمدينة عراقية قط إلا وسيقع بصرك لا محالة على أسماء المدن الفلسطينية وهي تزين واجهات المدارس والمساجد والأسواق والشوارع  والمؤسسات، لعل من أشهرها شارع حيفا، وشارع فلسطين في بغداد، ففلسطين حاضرة في الذاكرة والوجدان العراقي كابرا عن كابر، بصرف النظر عن تغير الأنظمة من عدمها، ولم تغب فلسطين من النهر إلى البحر عن الواقع الاجتماعي ولا عن الإذاعة والتلفزيون والسينما والمسرح. كذلك الشعر والرسم والرواية العراقية، وكان مركز الدراسات الفلسطينية قد أصدر ببليوغرافيا تفصيلية للدكتور حسام الساموك، عن "فلسطين في المؤلفات العراقية"، مازال يحظى بكثير من المتابعة والاهتمام.

القائد الفلسطيني عبد القادر الحسيني، الذي استشهد في معركة القسطل في نيسان 1948، كان قد نقل بجواز سفر عراقي بعد إصابته للعلاج في العراق خريف 1938م، وقد أذاع الدبلوماسي العراقي طالب مشتاق، سرا عن لقائه الأول بالحسيني

أبو خليل وفلسطين

الجندي العراقي ولعقود خلت كان يكنى بـ" أبو خليل" نسبة إلى مدينة الخليل التي دافع عنها أسلافه أسوة ببقية المدن الفلسطينية الأخرى، وما تزال "مقبرة شهداء العراق" في جنين  شاخصة إلى يومنا لتذكر الأجيال بالرباط التاريخي الذي لم تنفصم عراه بين العراق وفلسطين على مر التاريخ، مقبرة تضم تحت ثراها رفات (44) شهيدا شاركوا في الدفاع عن المدينة عام 1948، كذلك مقبرة العراقيين في نابلس التي تحتضن كأم ثكلى (194) جثمانا، ولو أنك تأملت مليا في أسماء ومحافظات الشهداء المكتوبة على شواهد قبورهم فسرعان ما تكتشف بأن فلسطين حية في قلوب العراقيين بصرف النظر عن أنظمتهم وقومياتهم وطوائفهم المختلفة، فقائمة الأسماء في المقبرتين تمتد مناطقيا من أقصى الشمال الى أقصى الجنوب العراقي، أما قوميا فتتضمن أسماء عرب وكرد وتركمان، لضباط ومراتب استشهدوا دفاعا عن كفر قاسم، وطولكرم، وجنين، ونابلس، وقلقيلية، ورأس العين، والمجدل، وكوكب الهوا وغيرها من القرى والقصبات والمدن الفلسطينية .

ولو استرجعنا من خلال شريط الذاكرة الحبلى أسماء قيادات "جيش الإنقاذ الفلسطيني" الذي تشكل في كانون الثاني من عام 1948 لتجلى لنا حجم المشاركة العراقية الواسعة في حرب فلسطين، فقيادة الجيش كانت قد عهدت إلى اللواء الركن العراقي "إسماعيل صفوت باشا" كذلك الحال مع فوج اليرموك الثالث في "رام الله"، وفوج القادسية في "باب الواد"، وفوج حطين في طولكرم، و"فوج الحسين" في "يافا"، وكلها كانت تحت إمرة قيادات عسكرية عراقية. أما عن أسباب الهزيمة برغم بسالة الجنود، وجسامة التضحيات فقد أرجع محمد حسنين هيكل جانبا منها في كتابه “العروش والجيوش" إلى غياب مفهوم القيادة آنذاك على وصفه.

وغني عن البيان أن القائد الفلسطيني عبد القادر الحسيني، الذي استشهد في معركة القسطل في نيسان 1948، كان قد نقل بجواز سفر عراقي بعد إصابته للعلاج في العراق خريف 1938م، وقد أذاع الدبلوماسي العراقي طالب مشتاق، سرا عن لقائه الأول بالحسيني، حيث كان مشتاق يومئذ قنصل المملكة العراقية في بيروت، مبينا تفاصيل إصدار جواز سفر عراقي للحسيني خارج حدود صلاحياته لتسهيل سفره إلى بلده الثاني العراق.

وربما لا يعلم كثيرون بأن العراق قد شارك فعليا في حرب 1967 على الجبهة الأردنية، وذلك بعد النتائج الكارثية للأيام الأولى، وفقا لكتاب (دور العراق في حرب عام 1967) لمؤلفه اللواء الركن علاء الدين حسين، مؤكدا مشاركة المقاتلات العراقية في اشتباكات مباشرة مع الطائرات الإسرائيلية، إضافة إلى تموضع الفوج الأول من لواء المشاة الأول، في مواقع دفاعية على الجبهة المصرية لحماية القاهرة والإسماعيلية.

أما عن دور العراق في حرب أكتوبر /1973، فقد شارك لدعم الجبهتين المصرية والسورية، وذلك بسلاحين أولهما عسكري تمثل بمشاركة 18 ألف جندي ، و400 دبابة إضافة إلى القوة الجوية، وثانيهما اقتصادي تجسد بتأميم حصة شركتي ستاندرد أويل نيوجرسي الأميركيتين في شركة نفط البصرة، وما تزال الذاكرة الجمعية تحتفظ بصفحات مشرقة من سفر  اللواء المدرع الثاني عشر، والسادس، و لواء المشاة الآلي الثامن، وأسراب طائرات "هوكر هنتر"و"ميغ 21 " و " سوخوي 7″ العراقية، وقد قدم العراق (323) شهيدا آنذاك دفنوا قرب دمشق .

الشاعر وليد الأعظمي، المعروف بإسلاميته، يتغنى بفلسطين ولاسيما في ديوانه "الزوابع" وكان كثير من شباب فلسطين يحفظون قصائده وفقا للدكتور بهجت الحديثي، في كتابه "القصيدة الإسلامية الحديثة وشعراؤها في العراق"

فلسطين في الأدب العراقي

لم تغب فلسطين كما أسلفنا عن المشهد الثقافي والأدبي العراقي برمته، إذ لم يذهل العراقيون على اختلاف مكوناتهم وانتماءاتهم عن فلسطين حيث كانت ومازالت حتى كتابة السطور جزءا لا يتجزأ من الاهتمام والهم المشترك الذي توافقوا عليه جميعا لينتجوا إرثا أدبيا كرس لنصرة فلسطين ما زال صداه وسيظل يتردد في الأفاق، فهذا رائد الشعر الحر بدر شاكر السياب، المعروف بنزعته القومية يقول بقصيدته "في يوم فلسطين":

تلك المواطن أين عنها أهلها.. فتروح تعرضها على الغرباء

والقدس ما للقدس يمشي فوقها .. صهيون بين الدمع والأشلاء

وهذا الشاعر وليد الأعظمي، المعروف بإسلاميته، يتغنى بفلسطين ولاسيما في ديوانه "الزوابع" وكان كثير من شباب فلسطين يحفظون قصائده وفقا للدكتور بهجت الحديثي، في كتابه "القصيدة الإسلامية الحديثة وشعراؤها في العراق" ومن أبيات الاعظمي التي حضت على نصرة فلسطين:

مـهلاً فلسطين في بغداد كوكبة .. مـن الـشـبيبة أبطال أشداء

ركـب الأخـوة عين الله تكلؤها .. ركـب الجهاد له الإيمان حداء

بدوره الشاعر محمد مهدي الجواهري، المعروف بيساريته، يقول في قصيدته "يوم فلسطين":

هبت الشامُ على عاداتها .. تملأ الأرضَ شباباً حَنِقا

نادباً بيتاً أباحوا قُدْسَهُ .. في فِلَسْطينَ، وشملاً مِزَقا

الدكتورة رباب هاشم حسين، أسهبت في بحثها الموسوم "فلسطين في الشعر العراقي" بالحديث عن مرحلتين تميزت أولاهما بالخطابية الزاعقة والثورية وإبداء الحزن، بينما اتسمت الثانية بالدرامية والغنائية والميل نحو التشكيل الفني بعيدا عن المباشرة.

وعيُ بدلا من نعي

من اللافت أن الصحافة والأوساط الأدبية العراقية لم تنزع إلى الرثاء المجرد لفلسطين، ولم تحبس نفسها داخل قفص النعي المحبط لتدور في فلكه من دون إرفاقه بما يعلي القيم ويستثير الهمم، موظفة كل الفنون والآداب مجتمعة لتخطي حالة الجمود والعجز والانكسار، والوقاية من متلازمتي الكبت والإحباط التي قد تعتري النفوس بعد كل عاصفة هوجاء تعصف بفلسطين ما ولد ردود أفعال اتفقت في تفاعلاتها رغم تباينها في تعبيراتها وانفعالاتها ،إذ لم يقصر مثقفو العراق نتاجاتهم على رثاء فلسطين و البكاء على أطلالها فحسب بعد كل مجزرة صهيونية تعصف بساحتها، وذلك على النقيض  مما فعله الخريمي في رثاء بغداد سنة 197 هـ ، وابن الرومي في رثاء البصرة سنة 255 هـ، و أبو البقاء الرندي عقب سقوط غرناطة عام 1492، حيث تخطى العراقيون لنصرة فلسطين حاجز البكائيات و جنحوا بدلا من ذلك  للدعوة إلى الفخر والعزة  والكبرياء برغم الألم الذي يعتصر قلوبهم ،والدموع التي تنهمر من أعينهم .

وكانت الدكتورة رباب هاشم حسين، قد أسهبت في بحثها الموسوم "فلسطين في الشعر العراقي" بالحديث عن مرحلتين تميزت أولاهما بالخطابية الزاعقة والثورية وإبداء الحزن، بينما اتسمت الثانية بالدرامية والغنائية والميل نحو التشكيل الفني بعيدا عن المباشرة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.