شعار قسم مدونات

امتحانات خاصة في المحن الكبرى!

تتجمع العائلات الفلسطينية النازحة في ساعات المساء من كل ليلة، حول نيران أوقدوها بجوار خيام مؤقتة في مدينة رفح أقصى جنوب قطاع غزة بالقرب من الحدود المصرية، بحثًا عن الأمان المفقود في ظل استمرار حرب إسرائيلية مدمرة لا تعرف القيود ولا تلتزم بتحذيرات ولا بقانون إنساني. ويعاني النازحون في مخيمات النزوح في رفح، أشد المعاناة في ظل البرد القارس والظلام القاتم، وتتجسد معاناتهم، في مواجهة الظروف القاسية والتحديات الكبيرة. وتعتبر رفح من أكثر المناطق اكتظاظاً بالسكان في قطاع غزة، بعد إجبار الجيش الإسرائيلي الفلسطينيين من سكان مدينتي خان يونس وغزة ومحافظة شمال القطاع على النزوح إليها بذريعة أنها منطقة آمنة. ( Abed Rahim Khatib - وكالة الأناضول )
أترانا قد اجتزنا امتحان التجويع والحصار بنجاح؟ (وكالة الأناضول)

توقفت حافلة التهجير قليلا بعد أن قطعت طريقا طويلة باتجاه الشمال، كانت الحافلة مليئة بالنساء والأطفال والشيوخ، وأراد السائق أن يشتري علبة دخان من أحد المحلات الصغيرة على أطراف الطريق، فقرر الجميع فجأة النزول لشراء كل ما يمكنهم شراءه بعد حصار طويل ومرهق، ولما صعدوا لم يبق في المحل شيء قابل للأكل.

لحظة التهجير لم يكن بإمكان الناس حمل أطعمة كثيرة معهم أثناء المغادرة، فالأمتعة يجب أن تكون محدودة، والباصات لا تتسع للاحتياجات، وقد خير النظام الناس ما بين الجوع أو الركوع، اختاروا الجوع ودفعوا ثمن الكرامة، ولما حان وقت التهجير كان على الجوع أن يرحل هو الآخر، وقد كنت أقول في نفسي: أترانا قد اجتزنا امتحان التجويع والحصار بنجاح؟

بعد أن استقر بالناس المقام في مدن وبلدات الشمال، لجأت كثير من النساء لتخزين الأطعمة، فلم يعودوا يثقون بحالة الرخاء مهما بدت دائمة، ولا بالاستقرار مهما أكدوا لهم وجوده، وصار شراء الحاجيات وتخزينها من أولوياتهن

كان على كل أب أو أم بعد التهجير أن يقوموا بجولة تعليمية لأطفالهم في السوق كي يعرفوهم  بأسماء وأشكال ومذاقات الأطعمة المختلفة، وكان عليهم أن يحاولوا أن يعيدوهم للحياة الطبيعية بالسرعة الممكنة، فقد كان تضييق النظام على الحواجز ومنع الطعام والدواء من الدخول إلى الحي المحاصر لعدة أشهر أمرا يهدد حياتهم، حتى هزلت أجساد الصغار والكبار وأصبح الخوف يعصف بالجميع، لكنه كان حافزا ليتراحموا أكثر، فكان ما يتوفر في الحي من حصص البيض الذي يتوفر من تربية بعض الدجاج مقدما للمرضى والجرحى وذوي الاحتياجات الخاصة، وكان جني بعض الخضار المزروعة على شحها، يهدي منه الجار إلى جاره عن طيب نفس، وحتى الملح  الذي كان ممنوعا ومحظور دخوله للناس، استطاع بعض الموظفين المسموح لهم بالدخول والخروج تهريبه من خلال تذويبه في زجاجات الماء، وقد كان ذلك امتحانهم الذي غامروا بأمانهم الشخصي مقابل أن ينجحوا في تقديم جرعة من الأمل والحياة وسط حصار خانق.

بعد أن استقر بالناس المقام في مدن وبلدات الشمال، لجأت كثير من النساء لتخزين الأطعمة، فلم يعودوا يثقون بحالة الرخاء مهما بدت دائمة، ولا بالاستقرار مهما أكدوا لهم وجوده، وصار شراء الحاجيات وتخزينها من أولوياتهن، وأساسا لأحاديثهن وتفكيرهن المشبع بالقلق، لكن هذه الظاهرة تراجعت بشكل كبير مع حادثة الزلزال، فلم يعد المخزون من المؤنة أمرا مهما، خاصة بعد أن عايشن الكارثة، ورأين البيوت التي مسحت بكل ما فيها، كانت علب تخزين الطعام البلاستيكية في كل مكان، طعام لم يتناوله أحد فقد سبق الأجل، ولم يعد يفكر أحد بأولوية الجوع مقابل أولوية الحياة، بل على العكس، حرصت ذات النساء على تقديم الأمل لبعضهن من خلال المساعدات العينية والمعنوية، كان اختبارا جديدا في الإنسانية وقد كنت أسأل نفسي أترانا قد نجحنا في اجتياز قلقنا ومخاوفنا وتحررنا مما هددنا فيه عدونا؟ فالركوع قد لا يكون بالضرورة لمن هددنا، قد نركع أمام مخاوفنا، وقد نركع أمام رغبات أنفسنا التي ستبقى تلح وتذكرنا بما مررنا به.

على يقين دائم أن ما عصف بنا من محن في تاريخ حياتنا  شعوبا وأفرادا إنما هو عبارة عن سلسلة من الاختبارات والتكاليف، كل مرحلة تختلف عما قبلها في درجة الشدة والصعوبة

حين شاهدت الآن ربيع يرمي البرتقال ليرسلها من مصر إلى قافلة المساعدات المتجهة إلى غزة، تذكرت برتقالة الحصار التي حصل عليها أحدهم كهدية ثمينة من شجرة عاشت في حديقة خلفية لأحد البيوت، فكان التعامل مع هذه البرتقالة بحرص، حين قسمها على خمسة أشخاص وكانت أهم من أي طبق حلوى يمكن أن يتناولونه في حياتهم، إنه اختبار الإيثار مجددا، وقد يأتي في اللحظة التي تكون أشد احتياجا لما تقدمه، لكنك لن تنجح إلا إذا قدمت، واختبارك أيضا أن تتحرك في اللحظة اللازمة، فتأخرك سيجعل قافلة الخير تفوتك دون أن تشعر.

كنت على يقين دائم أن ما عصف بنا من محن في تاريخ حياتنا  شعوبا وأفرادا إنما هو عبارة عن سلسلة من الاختبارات والتكاليف، كل مرحلة تختلف عما قبلها في درجة الشدة والصعوبة، وتتطلب منا تجاوبا وحلولا تتناسب مع قدراتنا، ومع شدتها أيضا، وكان يعزيني كثيرا أن الله تعالى لم يكلفنا إلا بما هو وسعنا، وأن علينا أن نصبر ونصمد حتى النهاية، لقد تغيرت قناعتي التي كانت تقول أن عليك أن تعطي حتى تأخذ، وباتت اليوم تنادي بأنه قد يتحتم عليك في بعض الأوقات أن تعطي دون أن تنال أي مقابل، لأن ما تنتظره كي يعود إليك قد يعود بشكل مختلف، كاحترامك لذاتك مثلا، أو سعادة صغيرة استطعت رسمها من خلال مساعدتك، أو شعورك برضا الله عنك وهذا ما يملأ قلبك بالطمأنينة ويشعرك أنك مستعد لخوض اختبار جديد ما دمت حيا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.