شعار قسم مدونات

طوفان الأردن.. دبيب روح جديدة

آلاف الأردنيين تظاهروا بمحيط السفارة الإسرائيلية في عمّان للتنديد بالحرب على غزة (مواقع التواصل)

دمعت عيني أمام ذلك المشهد، ولم تكن الدمعة من حزن أو ألم، وإنما أثارتها مشاعر فرح أحاطت بي آنذاك. وجدتني حينها كإنسان مضى عليه زمان ينظر إلى عزيز أمامه طريح الفراش يغط في غيبوبة طال أمدها، قد قيدته العلل، فلا يبدي حراكا ولا ينبس بكلام، حتى لم يبق له من مظاهر الحياة إلا بعض أنفاس تخرج؛ ثم إذا به فجأة يدب في بعض أطرافه شيء من الحركة، فأستبشر أنها بوادر عودة الحياة في الجسد.. كان ذلك هو الأثر الذي تركه في نفسي مشهد نشامى الأردن، وقد خرجوا إلى شوارع مدنهم منتفضين، يعلنون ثورتهم على الضيم والعدوان الواقع على إخوتهم في غزة الجريحة.

ولطالما تساءلت فيما مضى بألم وحسرة: ما الذي أصابنا؟ إلى متى نرى هذا البطش الإجرامي يفتك بأبناء غزة ولا ننتفض؟ ألا تجمعنا بهم روابط الدين والعرق والجوار، فضلا عن رابط الإنسانية؟ أيعقل أن نرى أصحاب الضمائر الحية في الغرب في تحركاتهم أكثر منا اندفاعا وصدقا، وحرصاً على إغاثة الملهوف ونصرة المظلوم؟ ألسنا أولى بذلك منهم، والمظلومون والمقهورون هم أهلنا وإخوتنا؟

كم هو رائع ذلك الاحتشاد الجماهيري في محيط سفارة الكيان الصهيوني، وقد علا الهتاف وارتفعت الصيحة معلنة قرارات الجماهير ليسمعها القاصي والداني، ندعم المقاومة الفلسطينية.

لكي نكون صادقين مع أنفسنا لا بد من الاعتراف أن تلك الحال كانت واقعا، وكان الواقع مأساويا مريرا ينتظر أن نثور عليه، وبداية ذلك في الحقيقة لا تكون إلا ثورة على أنفسنا، على العجز المتجذر فينا، على الرضا بالعجز والخنوع له واعتباره أمرا لا فكاك عنه، حتى صار شغلنا الشاغل اجترار مقولة "ما باليد حيلة"، ألا إن باليد حيلة، والقلوب تقتحم إذا تجاوزت الوهم، والهمم تعلو إذا امتلكت الإرادة، والشعوب جبارة إذا أخذت القرار وخطت طريق الخلاص، كأن هذا ما وعاه النشامى، فهبوا وقد أجمعوا أمرهم على أن الغد الآتي لا ينبغي أن يكون كالأمس.

كم هو رائع ذلك الاحتشاد الجماهيري في محيط سفارة الكيان الصهيوني، وقد علا الهتاف وارتفعت الصيحة معلنة قرارات الجماهير ليسمعها القاصي والداني، ندعم المقاومة الفلسطينية، لا بد من وقف إطلاق النار من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي في غزة، ندعم الأهل في غزة ونعمل على إيصال المساعدات الغذائية والطبية لهم، ويتوج ذلك كله المطلب الرئيس بقطع العلاقات الأردنية الإسرائيلية وإلغاء اتفاقية وادي عربة. وفي وقفة عز وشموخ والتزام يقطع المحتشدون على أنفسهم عهدا، فنسمع الجميع يرددون: "نعاهد الله أن نحمي المسجد الأقصى المبارك، وأن نفديه بأرواحنا، وأن نفديه بأموالنا، وأن نفديه بأولادنا، والله على ما نقول شهيد".

ويسعد القلب وتنتعش الروح إذ نرى ذلك الحراك في بقعة من الوطن قد وجد ترحيبا وصدى طيبا في بقاع أخرى، لقد هتفت جماهير الأردن "الشعب المصري عامل إيه.. معبر رفح مسكر ليه؟"، فوصلت رسالة العتب إلى أصحابها الذين ردوا على الهتاف بهتاف "قولوا لرفاقنا في عمان.. لسا مصر حية كمان"، لتحمل الكلمات بشارة بأن التحرك في وجه الظالمين قادم. وأما جماهير المغرب التي تجاوبت مع تحركات الأشقاء في الأردن وخرجت لتعلن انضمامها إلى مسعاه، فقد رددت كلمات لها معناها ودلالاتها المستمدة من هوية الملثم الذي يختم بها خطاباته معلنا "وإنه لجهاد.. نصر أو استشهاد". ومع كل يوم يمضي تنضم إلى قافلة الإباء مدينة تلو أخرى في الأردن والعراق واليمن وغيرها.

لقد أنعشت هذه التحركات نفوس الأهل في غزة، وقابلوها بالتحية والترحاب، كيف لا وهي قد أعادت لهم الأمل بعدما كاد ينقطع، وأكدت لهم حقيقة أن الخير في الأمة باق، وأنه وإن فتر حينا فلن يموت.

لقد أنعشت هذه التحركات نفوس الأهل في غزة، وقابلوها بالتحية والترحاب، كيف لا وهي قد أعادت لهم الأمل بعدما كاد ينقطع، وأكدت لهم حقيقة أن الخير في الأمة باق، وأنه وإن فتر حينا فلن يموت؛ ومن غزة العزة خرجت تغريدات أبنائها تحيي جماهير الأمة المنتفضة، وتحثها على مواصلة السير؛ وفي واحدة من هذه التغريدات نقرأ: "نسمع صوتكم.. هتافكم يواسينا، ووقفتكم تؤنس وحشتنا.. لا تستقلوا صنيعكم، استمروا.. ما عاش أبو قلب ضعيف.. إذا غضبت فاصرخ، وإذا نصرت فاستكثر.. معركتنا واحدة وإن تباعدت الثغور، فالقلوب تلاقت والأرواح اتصلت".

لقد ولد أمل جديد، ولا ينبغي للأمل أن يموت، ولكيلا يكون ذلك فالحذر كل الحذر أن تخدع الجماهير نفسها أو تنساق لخداع أعداء الداخل والخارج؛ فدورها لن ينتهي بمجرد الخروج إلى الشوارع والساحات للتظاهر لتعود بعده إلى السكينة وترتاح، فالتظاهر ليس إلا إعلان انطلاقة لتحقيق المطالب، وإن لم يرتدع العدو عن غيّه ويفهم الرسالة، فليعلم أن الطوفان قادم ليقتلعه من الجذور.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.