شعار قسم مدونات

تصويرية الحدث.. بين اللغة والإعلام

صور لخبر عن جداريات تشكو خذلان الأمم المتحدة صور خاصة شكراً لخذلانكم.. سوريون ينتقدون موقف الأمم المتحدة أقدم عدد من السوريين في مدينة سرمدا الواقعة شمال محافظة إدلب بالقرب من الحدود السورية مع تركيا على رسم جدرايات تنتقد تخاذل الأمم المتحدة. ورفع ناشطون أعلام الأمم المتحدة وهي معلقة بشكل عكسي وذلك تنديداً بموقفها تجاه آلاف الضحايا جراء الزلزال في شمال غرب سوريا. وقام الرسام السوري عزيز الأسمر برسم صورة جدارية على أحد المباني المدمرة في مدينة سرمدا شمال إدلب مكتوب عليها "الأمم المتحدة خذلتنا". كما تم رسم صور على ركام المنازل جاءت تحت عنوان "شكراً لخذلانكم" و لافتة مترجمة إلى اللغة الإنكليزية وذلك تنديداً بالتخاذل الدولي الحاصل. وفي حديث للجزيرة نت أشار الناشط الإعلامي عيسى مصطو أن المساعدات الأممية تأخرت لمدة 3 أيام وبعد وصولها كانت هزيلة وهي عبارة 6 شاحنات تضم مواد نظافة وبعض الأغطية".
جداريات تشكو خذلان الأمم المتحدة (الجزيرة)

لا شيء -عندي- أَهنأ للمصحح له وطالب التدقيق من قاعدة مطردة أو إحالة هادية ترتاح لها نفسه، ويطمئن بها قلبه، مصداقا للمثل العالمي السائر: "لا تعطني سمكة، ولكن علمني كيف أصطادها"، فهذه السياسة أقرب للتوصيل، وأدنى للأَخذ بمجامع انتباه المتلقي، وإيقافه على وجوه الاحتمال، ومناديح المخرج، ومحامل القياس؛ ليأخذ -إذا أَخذ- عن بينة، ويترك -إذا ترك- عن بينة؛ بعيدا عن قالب "قل، ولا تقل" المغلق، وأسلوب "صح أو خطأ" الحبيس!

وكأني بمتعجل يقاطعني قائلا: العنوان، يرحمك الله!

فله أقول: يهديكم الله، ويطيل بالكم.

وإنما هذه التقدمة تأطير له ما بعده، فسأَعبر منها إلى العنوان الذي خطر ببالي لما مر بذهني قوله سبحانه في شأن تهديد فرعون موسى بالسجن: {قال لئن اتّخَذتَ إلٰها غيري لأجعلنَّك مِن المسجونِين}، فقد تذكرت قول جماعة "قل ولا تقل" ومدربي "صح أو خطأ": لا تقل (تم إجراء عملية الانتخاب الرئاسي) بل قل: (انتخب الرئيس)؛ تسترِح، وتربح كلمتين بدلا من خمس.

نرى فرعون قد عمد إلى أسلوب "الربط الذهني" ومخاطبة المخيلة؛ مستدعيا صورة المعبدين الذين أودعهم غياهب سجونه الرهيبة، وصب عليهم سوط عذابه الأليم.

ولو قال فرعون: لأسجننك، لوصلت رسالة التهديد، وحلت كلمة واحدة مكان ثلاث (بحساب لوحة المفاتيح)، لكن بدون لمسة "الأداء" التي أضافتها الكلمات الثلاث مجتمعة، وإنما وجه الإشراق والسمو والحرارة التعبيرية والتأثير البلاغي كامن في مراعاة "نقل الصورة" -في الآية- إذ نرى فرعون قد عمد إلى أسلوب "الربط الذهني" ومخاطبة المخيلة؛ مستدعيا صورة المعبدين الذين أودعهم غياهب سجونه الرهيبة، وصب عليهم سوط عذابه الأليم. ولما كانت حال أولٰئك "المسجونين" حاضرة في الذهن، لم يمتثل فرعون "سياسة اختصار الكلمات" -التي أصبحت مما علم من مقرر الدرس الإعلامي بالضرورة- بل أتى بما يسميه النحاة "أل العهدية"، وفي ذلك مناسبة لغوية لطيفة؛ فالمسجونون الذين يتحدث عنهم فرعون هم الذين سينصرِف إليهم ذهن موسى -والحاضرين- لسوء سمعة سجون فرعون، وشهرتها المروعة.. لكنه انصراف يكفي لفهم "الرسالة الترهيبية" دون سريان مفعولها؛ فما تهديد فرعون إلا استعراض فارِغ، وما كيده إلا في تباب.

وأما عبارة: "أجريت عملية الانتخاب الرئاسي"، ونحوها من العبارات التي جاهد مدربو "التدقيق التحريري" في سبيل نقضها وتسفيهها -فإن فيها معنى زائدا- لا جرم؛ إذ هي تحيل إلى "الإجرائية العملية"، وما يصاحبها من تحضيرات ميدانية، وما يلازمها من تجهيزات فنية، مضاف إليها كواليس سير عمل اللجان، ومجريات الاقتراع، وما بين ذلك من حيثيات تفاعلية، وما تحته من ماورائيات سياقية، وهذا ما سميته "تصوير الحدث"، وجعلته عنوان هذه المادة.

لعمري لو قال مذيع: "تم تدمير دبابة الميركافا بقذيفة الياسين 105" لكانت تلك الجملة الطويلة -نسبيا- أبلغ من الاختصار الذي في الجملة القصيرة: "دمرت الميركافا"

على أنني هنا لا أدافع عن هذا "الأسلوب الإعلامي" من باب الحكم بسلامته وصحته وفق قواعد كلام العرب، وعلى شرط لغتهم، لكن له مندوحة استئناس ووجها من الاستساغة، ليس في اللفظة العجلى: "انتخب الرئيس"، ذلك بأن "السياسة اللغوية" تراعي الاسترسال والإطناب، كما تعتمد الإيجاز والاختصار، لكن، بقدر وحساب، فليس جمالها وبيانها وقفا على "إيجاز الإعجاز"، وليس "استرسال الإطناب" فيها ضربا من الحشو والزيادة – بالضرورة.

ولعمري لو قال مذيع: "تم تدمير دبابة الميركافا بقذيفة الياسين 105" لكانت تلك الجملة الطويلة -نسبيا- أبلغ من الاختصار الذي في الجملة القصيرة: "دمرت الميركافا"؛ ذاك بأن الجملة الأولى تستغرق من الوقت ما يناسب مقدار اشتعال النار في الآلية الحربية، وكأن كلمة "تم" تحيل إلى اكتمال عملية الاحتراق، وتحول الدبابة الضخمة وخردة بالية، وفي ذلك معنى لمن كان في ذهنه متسع تأمل!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.