شعار قسم مدونات

الجوع.. سلاح الاستبداد

أزمة السيولة ستعمق حدة المجاعة وتزيد بؤس البسطاء في قطاع غزة-رائد موسى-رفح-الجزيرة نت
عالم متأرجح بين فرح الشبع وألم الجوع بين وفرة الرغيف وقلة الكساء (الجزيرة)

لطالما كانت فكرة أغلبنا عن رمضان تقتصر على التخفف من الطعام والشراب فحسب، وسيكولوجية الهلع من الشهر التي تجتاح الأنفس على أعتابه؛ فالبعض يشغله التفكير في بطنه وهاجسه الجوع، والبعض تروعه سلامة صحته وهاجسه الأدوية، وآخر شهوات نفسه والأهواء. كلٌّ وسر نفسه وما يشغله، لنعيد بذلك اكتشاف أنفسنا؛ ما أثمن ما نحرص عليه وما أَخْوَف ما نخشاه؟ كأنّ في الصيام عقوبة لا فرصة إحياء، ليأتي إطلاق العنان للنفس بعد الأذان، في حين أنّ الأصل في الشهر هو التخفف من الانشغال بهذا كله.

يُصوِّر هامسون ببراعة كيف يمكن للجوع أن يؤثر بشكل مدمر على الإنسان والمجتمع على السواء، مما يجعله عرضةً للسيطرة والتلاعب من قِبَل السلطات القمعية.

في الواقع، يقع انشغال الإنسان بالطعام والشراب ضمن الدوافع الأساسية التي أسهمت في الرغبة في مواصلة الحياة؛ فهو يتقدم على الدوافع الأخرى التي تنظم حياتنا، والتي يُشير لها أبراهام ماسلو، عالم النفس المعروف بنظريته حول "التسلسل الهرمي للحاجات" (Pyramid of Needs)، إلى أنها تقسّم إلى خمسة مستويات في هرم الاحتياجات، حيث يجب تحقيق الحاجات الأساسية الأولى قبل التحرك إلى المستويات الأعلى. تبدأ هذه الحاجات من الاحتياجات الفسيولوجية مثل الطعام والشراب والنوم، ثم تتحرك إلى الأمن والأمان، ومن ثم الانتماء والحب والملاءمة الاجتماعية، ومن ثم الاحترام، وأخيرًا الاحتياجات الذاتية التحقيقية.

فوجود دافع الجوع في أول الهرم يجعله يحرك ويعطل باقي الاحتياجات الإنسانية ويترك أثره وانعكاساته على الحياة والإنجاز الإنساني، جودة حياته وقدرته على التكيف مع التحديات اليومية. ويظهر هذا بشكل جلي في تجربة الصيام في رمضان مثلا، بتراجع جودة إنتاج أغلب الناس، ليتحول الإنسان إلى كائن غير قادر على التركيز والتفكير بوضوح، مما يؤدي إلى فقدان القدرة على المبادرة والتحرك، يكابد القلق والانتظار والشقاء الذي يؤرقه طوال النهار، رغم أنّه جوع مؤقت يصاحبه خفض عدد ساعات العمل. وعلى مدار التاريخ لم يكن نظام الوجبات الثلاث قائما في مجتمعات وحضارات شتى سابقة، فكان الناس يأكلون بحسب تيسر الطعام، وقد يربطون حجرا على بطونهم من الجوع، بل ويعانون من العطش أحيانا لندرة الماء. وإذا أردنا التحدث عن الوجه المغبر للجوع حقا، عن وجهه القاسي فسنجده حيث على وجوه الشعوب المستبَدة، والمستعمرة المحاصرة، وأيضا على وجوه العائلات والمجتمعات غير القادرة على تلبية احتياجاتها اليومية البسيطة، أما غير هذا فكله ترف.

يقوم الروائي النرويجي نوت هامسون الحائز على جائزة نوبل للآداب في كتابه "الجوع"، بتقديم صورة درامية لتجربة الجوع وتأثيرها القوي على الإنسان. يُصوِّر هامسون ببراعة كيف يمكن للجوع أن يؤثر بشكل مدمر على الإنسان والمجتمع على السواء، مما يجعله عرضةً للسيطرة والتلاعب من قِبَل السلطات القمعية. يصور هامسون في روايته كيف يتحول الإنسان المُجاع إلى كائن مكتئب ومنهك، يفتقر إلى القوة والحماس، مما يحول دون قدرته على مواجهة التحديات والمخاطر بكفاءة. تُظهِر الرواية كيف يتداخل الجوع مع العوامل النفسية لدى الشخص، مثل الإحباط واليأس، وكيف يتأثر تصرفه وتفكيره بشكل سلبي جدًا نتيجة لهذه التجربة القاسية.

من الأمثلة التاريخية على سياسة التجويع في الحروب، يمكن الإشارة إلى الحصار الذي فرضته القوات النازية على مدينة لينينغراد (سانت بطرسبرغ الحالية) خلال الحرب العالمية الثانية. استمر الحصار لأكثر من 900 يوم، حيث تعرض السكان إلى معاناة هائلة جراء نقص الغذاء والموارد الطبية

من خلال تكثيف الوصف والتصوير الدرامي، يعرض هامسون كيف يمكن للحاجة الماسة للغذاء أن تؤدي إلى انهيار النفس البشرية والمجتمعية، وكيف يمكن للسلطات القمعية استغلال هذه الضعف لتعزيز سيطرتها وقمع المعارضة. بهذا الشكل، يرسم صورة واقعية ومخيفة لقوة الجوع كأداة للسيطرة، وتحقيق أهداف سياسية أو عسكرية. تعتمد هذه السياسة على تقييد الوصول إلى الموارد الغذائية الأساسية للسكان، وتعطيل عمليات التوزيع والإمداد بشكل متعمد، مما يؤدي إلى تفاقم الجوع والفقر بين الشعوب المستهدفة.

من الأمثلة التاريخية على سياسة التجويع في الحروب، يمكن الإشارة إلى الحصار الذي فرضته القوات النازية على مدينة لينينغراد (سانت بطرسبرغ الحالية) خلال الحرب العالمية الثانية. استمر الحصار لأكثر من 900 يوم، حيث تعرض السكان إلى معاناة هائلة جراء نقص الغذاء والموارد الطبية، مما أدى إلى وفاة مئات الآلاف جوعاً. وما نشهده اليوم في قطاع غزة يعدّ نموذجًا حديثًا لاستخدام الجوع كأداة للضغط السياسي والتحكم والإذلال التي يمارسها الكيان الإسرائيلي منذ 174 يوما، ليجعلهم في حالة عوز دائم تحول بينهم وبين استنهاض وعيهم وقوتهم للدفاع عن أنفسهم وأرضهم؛ فالجائعون يوظفون ما تبقى لديهم من قوى جسدية في البحث عن وسائل تهدئ الجوع المرتبط بغريزة البقاء.

الحقيقة أنّنا لا يمكننا توصيف سياسة التجويع الممنهج هذه بالسياسات غير الأخلاقية، والسلوكيات المُتطرفة، والممارسات الإرهابية، لأنّها توصيفات مجحفة محدودة في وصف مدى القُبح والهمجية والبشاعة التي تسود العالم، عالم همجي يفتقر للعقال الأخلاقي. عالم متأرجح بين فرح الشبع وألم الجوع، بين وفرة الرغيف وقلة الكساء. في ظل قانون مظلم يغطي الأمل ويحجب السبيل، يشهد قسوة الظروف وجور السياسات، فهي ليست مسألة جوع وحالة فقر غذائي فقط بل هي صرخة مدوية في وجه القوانين الدولية، صرخة تفضح هشاشتها وزيف شعارات من وضعوها ومن يتحكمون بها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.