شعار قسم مدونات

ذاكرة الحرب (1)

يقول نازح: كنا ناس عز وكرم ما نحرم حالنا ونلتم كلنا كعيلة على سفرة وحدة والآن صرنا مفرقين كل واحدة في جهة (الفرنسية)

من الجيد أننا نمتلك ذاكرة لا تنسى، تبقي المشاهد التي اعتدناها قبل زمن الحرب وفي زمن الحرب حاضرة فينا لنسردها ونوثقها، حتى لا تزيف أو تنسى.

بؤس غامر في قلوبنا جميعا يتمحور في "كنت، كنا"، تقول نازحة في خيم رفح: "كنت أعيش في غرفة ولي سرير خاص وحمام خاص، وأعيش خصوصيتي ووقتي الخاص كما يحلو لي، والآن صرت أعيش في خيمة لا تتسع لاثنين يسكنها عشرون فردا

فعلى مرأى عيني الآن مشهد قد رأيته سابقا بنفس الزمان والمكان، لكن كل سيناريو هذا المشهد قد تبدّل حاله، فبطلته طفلة تسمى فرح، من جيران بيتنا قبل الحرب. كان لها حياة رغيدة كأي طفلة، وكانت فرح يوميا عند وقت العصر تقف أمام بيتها الذي بني بعرق تعب والدها، ترقص فرحا بعودة أبيها من العمل صارخة بسعادة "بابا جبلي فواكه".

لكن في الحرب تغير المشهد، وعم الحزن كل تفاصيله، فالبطلة نفسها عند وقت العصر تقف أمام بيتها المهدوم، شاحبة الوجه من قلة الطعام والرعشة تظهر على كفيها الخائفتين، تنتظر عودة أبيها الذي قتل ومازال تحت أنقاض منزلهم، وبعفوية عقلها الطفولي ما زالت تنتظر أن يأتي ويحضنها وتلقى الأمان الذي فقدته من يوم استشهاده، في ذات الوقت نظرت فرح للأعلى لترى مناطيد الإنزال تنزل، وتصرخ بكل حزن "جوعانة وبابا مات نزلولي فواكه"!

بؤس غامر في قلوبنا جميعا يتمحور في "كنت، كنا"، تقول نازحة في خيم رفح: "كنت أعيش في غرفة ولي سرير خاص وحمام خاص، وأعيش خصوصيتي ووقتي الخاص كما يحلو لي، والآن صرت أعيش في خيمة لا تتسع لاثنين يسكنها عشرون فردا، حمام مشترك لأكثر من مئة شخص، وأنام بفرشة مشتركة بين اثنتين، ونسيت شيئا اسمه خصوصية أو وقتا خاصا بي".

ويقول نازح آخر: "كنا ناس عز وكرم ما نحرم حالنا، ونلتم كلنا كعيلة على سفرة وحدة، والآن صرنا مفرقين كل واحدة في جهة ومعظمنا حي والآخر قد مات وماتت معهم لَمة عائلتنا والفرحة".

دماؤنا لم تشفع لنا، دموعنا لم تشفع لنا، آهاتنا لم تشفع لنا، أحزانُنا لم تشفع لنا، أوجاعنا لم تشفع لنا، حرقة قلوبنا لم تشفع لنا، نحيب أرواحنا لم تشفع لنا، صغارنا، شيوخنا ،نساؤنا وكل من فينا لم يشفع لنا، ماذا سيشفع لنا إن لم تشفع كل مآسينا هذه لنا؟

تبقى الأسئلة تعصف في ذهني، هل وقف الزمن الجميل عند السادس من أكتوبر؟ وهل سنظل نقارن حياتنا السابقة بالحاضرة الآن؟

ماذا تبقى من "كوارث إنسانية" حدثت وشاهدها العالم من كل زواياها وفي كل شبر في غزة؟ ماذا يجب أن يحصل أكثر منها ليشفع لنا في هذا العالم الظالم؟

تبقى الأسئلة تعصف في ذهني، هل وقف الزمن الجميل عند السادس من أكتوبر؟ وهل سنظل نقارن حياتنا السابقة بالحاضرة الآن؟ أم سيكتب لنا زمن جميل آخر؟ وحتى متى سيعترينا الحزن ويعتبر قلوبنا وطنا يقيم به؟ وهل للفرح وقت سيخصصه مستقبل لنا؟

وبختام هذا النص عدة أدوات استفهام لجملة واحدة، هل وأين ومتى وكيف سننال حريتنا!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.