شعار قسم مدونات

كيف يعبر بنا التاريخ إلى المستقبل؟!

صور من التاريخ الإسلامي - كوارث طبيعيه - تراث الجزيرة - ميدجورني
يرى ابن خلدون أن التاريخ يسير في دورة من العصور يبدأ بمرحلة البداوة ثم يعود إلى مرحلة الملك ثم يتدهور إلى مرحلة الانهيار (الجزيرة - ميدجورني)

إن حركة الأحداث المتسارعة اليوم وكم المفاجئات الكبيرة التي نسمعها في الأخبار مع الخوف من غموض المستقبل والإحساس بثقل التاريخ، كانت تضعني دائما أمام سؤال القدرة على تفكيك شيفرة التاريخ والمستقبل، وسؤال كيف لنا بفهم حركة التاريخ وتفسير مساره ضمن نظريات كلية لتساعدنا على وضع يدنا على ملامح تشكل المستقبل المخيف، والذي هو في أحد تعريفاته امتداد للحاضر والماضي.

من هنا كان لابد من وضع المنهج البحثي الصارم لفهم التاريخ بما كان عليه لا كما نحب أن يكون ولا كيف يجب أن يكون، فالقراءة التمجيدية للتاريخ والقراءة السوداوية، لا تسعفنا في اجتراح منهج اجتماعي دقيق يساعدنا على التنبؤ بالمستقبل، ورسم ملامحه بكل ما يحمله من تحديات وأخطار وفرص.

من هنا أحببت في هذه المدونة الوقوف عند أهم أربع نظريات لفهم مسار التاريخ وتشكل المستقبل:

مع التطور التكنولوجي لم تعد البداوة قادرة على مواجهة الحضارة فقد انهزمت إفريقيا البدوية أمام الأوروبيين وهزمت بداوة الهنود الحمر أمام المهاجرين الغربيين إلى أميركيا وهو ما يفترض تطوير نظريات جديدة لفهم حركة التاريخ والمستقبل.

الحركة الدائرية الخلدونية

يرى ابن خلدون أن التاريخ يسير في دورة من العصور، ويبدأ بمرحلة البداوة، ثم يعود إلى مرحلة الملك، ثم يتدهور إلى مرحلة الانهيار.

تبدأ كل دورة للتحكم بقوة عصبية قوية لدى قبيلة معينة ومع مرور الوقت، تنمو القوة والتحول العصبي لدى الإلغاء، مما سمح لها بتأسيس دولة. تبدأ الدولة في التوسع والازدهار، وتبني الحضارة ومع ازدهار الدولة، تتنعم الدولة بمختلف الترف والفساد. ويبتعد الناس عن القيم والأخلاق، مما يُضعف الدولة. ويدخلها في مرحلة الانهيار حيث يغري ضعف الدولة الضرورية بالغزو من قبل القبائل البدوية. تصنيف الدولة وتنهب ثرواتها. ثم لتبدأ دورة جديدة: تبدأ دورة جديدة من التاريخ مع قبيلة جديدة يحكمها عصبية قوية.

وتاريخيا حصل ذلك، كانت لبداوة العرب الفاتحين دور هام في إسقاط الإمبراطورية الفارسية ودحر الإمبراطورية البيزنطية من الشام، وكذلك فعلت قبائل البرابرة الجرمان عندما غزت روما وأسقطتها وكذلك فعلت الجيوش البدوية المغولية التي اجتاحت الصين والعالم الإسلامي وصولاً إلى أوروبا والتاريخ يذكر الكثير من هجوم القبائل البدوية على الدول المتحضرة وإسقاطها.

لكن مع التطور التكنولوجي لم تعد البداوة قادرة على مواجهة الحضارة فقد انهزمت إفريقيا البدوية أمام الأوروبيين وهزمت بداوة الهنود الحمر أمام المهاجرين الغربيين إلى أميركيا وهو ما يفترض تطوير نظريات جديدة لفهم حركة التاريخ والمستقبل.

نظرية الرؤية المستقيمة للتاريخ وفق الرؤية الشيوعية

بدأت نظرية الحركة المستقيمة للتاريخ في أوروبا خلال القرن التاسع عشر، وترتبط بشكل كبير بالفكر الاشتراكي من أبرز المنظرين لها كارل ماركس وفريدريك إنجلز وفلاديمير لينين حيث ترى هذ النظرية أن التاريخ يسير في الاتجاه الصحيح نحو الهدف المحدد وهو الوصول إلى الشيوعية عبر العديد من المراحل ووفق حركة حتمية وضرورية. وهذه المراحل هي عصر المشاع البدائية حيث المجتمع بدائي بسيط يسود فيه التعاون والمساواة. لا يوجد طبقات اجتماعية أو ملكية خاصة ثم يأتي عصر العبودية: ظهور المالك من الذين يملكون الإنسان. وبدأ الصراع بين العبيد والاحرار لنيل الحرية ثم يأتي. عصر القطاع حيث يملك النبلاء الأرض ويعمل لديهم أقنان الأرض وهنا يتولد الصراع بين الفلاحين والملاك لننتقل إلى العصر الرأسمالي: حيث يملك أصحاب المال وسائل الإنتاج والصراع الطبقي بين العمال ومالكي واسائل الإنتاج. لتبدأ الثورات الاشتراكية والعصر الاشتراكي الذي يقوم على ملكية الدولة لوسائل الإنتاج وتطبيق قاعدة من كل حسب قدرته ولكل حسب حاجته في توزيع الناتج.  ثم الوصول إلى المجتمع الطوباوي في عصر الشيوعية: مجتمع مثالي يسود فيه التعاون والعدالة. لا يوجد طبقات اجتماعية أو ملكية خاصة.

لم تتحقق هذه النظرية التي يفترض أصحابها أنها حتمية وضرورية وما حصل هو الانقلاب على الاشتراكية والشيوعية في كثير من الدول التي طبقتها وعادة لتتبنى الرأسمالية والسياسات النيو ليبرالية وهو ما يشككل تماماً في حتميتها وفكرة نهاية التاريخ عند العتبة الشيوعية.

يبدو أن أصحاب هذه النظرية غارقين في التفاؤل وعدم الواقعية فالتاريخ محمل بالتحديات والصراعات كما تعاني هذه النظرية من القصور حيث تناول التقدم المادي لكنها تتجاهل التخلف الأخلاقي والقيمي الذي يعاني منه العالم المتحضر

نظرية التطور والتقدم المستمر للتاريخ:

ترى نظرية التطور والتقدم المستمر للتاريخ التي نشأت في أوروبا خلال عصر التنوير، أن التاريخ يسير في مسار تدريجي نحو تحقيق التقدم والازدهار والرخاء والرفاهية وسعادة الإنسان كان من أهم المنظرين لها الإنكليزي جون ستيوارت ميل والأميركي فرانسيس فوكو ياما وتقوم على عدة أسس هي التطور النظر الذي يشير إلى أن الكائن الحي يختار ويتغير عبر الزمن، مما يؤدي إلى تحسينها وفلسفة الحداثة التي تشير إلى التغييرات الإيجابية التي تتحدث في المجتمع عبر الزمن، والتقدم الذي يشير إلى تحسين حياة الإنسان خلال الوقت.

ويرى أصحاب هذه النظرية أن البشرية تجاوزت العصر الزراعي ومرت خلال العصور الحديثة بأربع ثورات صناعية هي الثورة الصناعية الأولى التي جاءت مع اختراع المحرك البخاري والثورة الصناعية الثانية التي جاءت مع اختراع الكهرباء ومحرك الاحتراق الداخلي والثورة الصناعية الثالثة مع اختراع شبكة النت والحاسوب والثورة الصناعية الرابعة مع اختراع الذكاء الصناعي ونحن نتحضر الآن للدخول في عصر الثورة الخامسة وهكذا تستمر حركة التقدم للتاريخ.

لكن يبدو أن أصحاب هذه النظرية غارقين في التفاؤل وعدم الواقعية فالتاريخ محمل بالتحديات والصراعات كما تعاني هذه النظرية من القصور حيث تناول التقدم المادي لكنها تتجاهل التخلف الأخلاقي والقيمي الذي يعاني منه العالم المتحضر إضافة لما تسببه التقدم المادي من تدمير البيئة والتسبب بالتبدل المناخي والكوارث وانقراض السلاسل الحية.

لم يستطع المؤرخون وعلماء الاجتماع والفلاسفة ابتداع نظرية شاملة قادرة على فك شيفرة التاريخ والمستقبل وسيبقى جانب القصور تحديا ليس بالسهل تجاوزه، فمدخلات فهم التاريخ والتنبؤ بالمستقبل أكثر من أن تستوعبها نظرية أو رؤية تحليلية تعتمد على مجرد المدخلات المادية بدون حساب المدخلات المعنوية

نظرية حركة التاريخ وفق المنحنيات

ظهرت نظرية حركة المنحنيات في تاريخها خلال القرن العشرين حيث ترى أن التاريخ لا يسير في مسار مستقيم أو مستمر، بل يمر عبر منحنيات تتجه للصعود والهبوط. وتعتمد على أسس فكرية هي الجدل الشامل الذي يشير إلى أن التغيير في المجتمع يحدث من خلال الصراع بين القوى المختلفة. وفكرة التحدي والاستجابة حيث ان تحديات اليوم هي من تحرك المجتمعات للاستجابة في المستقبل، من أهم المنظرين لها المؤرخ الأميركي أرلوند توينبي وعالم الاجتماع الألماني نوربيرتو إلياس، والفيلسوف الألماني يورغن هابرماس.

ومن أمثلة هذه النظرية أن منحنى الهبوط للحرب العالمية الثانية (1939-1945) أدت منحنى صاعد في تشكيل الأمم المتحدة. ثم جاء منحنى الهبوط في الحرب الباردة (1947-1991) ليعقبه منحنى صاعد نحو العولمة والنظام العالمي الجديد وهكذا تستمر المنحنيات صعوداً ونزولا.

لكن يلاحظ على هذه النظرية طابع التعقيد الذي يصعب معه توقع مسار التاريخ وفقا لهذه الغاية. كما أنها تركز على التركيز الصراع بين القوى العاملة المختلفة بدون الاهتمام بباقي محركات التاريخ.

من الواضح أنه لم يستطع المؤرخون وعلماء الاجتماع والفلاسفة ابتداع نظرية شاملة قادرة على فك شيفرة التاريخ والمستقبل وسيبقى جانب القصور تحديا ليس بالسهل تجاوزه، فمدخلات فهم التاريخ والتنبؤ بالمستقبل أكثر من أن تستوعبها نظرية أو رؤية تحليلية تعتمد على مجرد المدخلات المادية بدون حساب المدخلات المعنوية المتعلقة بالقيم الأخلاقية التي ينيط بها القرآن الكريم حركة التاريخ والعمران.

قال تعالى: (وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا) الكهف 59. إن ابتداع نظرية أخلاقية في فهم مسار التاريخ وتشكل المستقبل سيسهم في سد فجوة كبيرة في هذا المضمار.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.