شعار قسم مدونات

عندما تتحول المساعدات الإنسانية إلى وسيلة للتمييز العنصري

فلسطينيون يركضون في أحد شوارع مدينة غزة في وقت يتم فيه إسقاط مساعدات إنسانية جوا (الفرنسية)

عندما بدأ العالم بتقنين القواعد المنظمة للحروب والنزاعات، فيما يعرف بالقانون الإنساني، كان الهدف الأساس لهذا التقنين التحكم بسير الأعمال الحربية من جهة، وتخفيف معاناة الناس نتيجة الحروب والنزاعات من جهة أخرى، ومع تزايد حالات النزاع وتكرار الحرب، وتطور مفهوم القانون الدولي وظهور الاتفاقيات الدولية الأخرى التي تحاول الوصول إلى اتفاق بين الدول حول موضوع ما؛ زادت القرارات والاتفاقيات الدولية التي تسعى لضبط الحروب والنزاعات الدولية وغير الدولية، والحد من الانتهاكات والفظائع التي تحدث خلالها، والتي تصيب الإنسان، الذي هو الموضوع الأساسي لمثل هذه القوانين. واليوم اكتسب عدد كبير من أحكام القانون الإنساني وضع القانون العرفي واجب التطبيق في النزاع المسلح الدولي والنزاع المسلح غير الدولي، مما يعني ضرورة إلتزام الدول بهذه الأحكام.

ما يجري في غزة منذ أشهر يجعلنا نتوقف كثيرا أمام الصمت الدولي غير المبرر، الذي لا يكاد يحرك ساكنا أمام ما يجري من حصار وتجويع وإبادة جماعية بحق الفلسطينيين.

الحق في المساعدة الإنسانية

في عام 1993 أشرف المعهد الدولي للقانون الإنساني في سان ريمو (إيطاليا) على تنظيم وثيقة صدرت بعنوان "مبادئ توجيهية بشأن الحق في المساعدة الإنسانية"، إذ يعد الحق في المساعدة الإغاثية الإنسانية أثناء الحروب والكوارث تطبيقا للقاعدة التي تقول: إن جميع البشر لديهم الحق في الحياة بكرامة والحق في الحصول على الخدمات الأساسية التي تحفظ هذه الحياة بكرامة، سواء في أوقات السلم أم الحرب. وكان مما جاء في وثيقة معهد سان ريمو تلك، مبادئ عدة تنظم الحق في المساعدة الإنسانية، وجاء في المبدأ التوجيهي الأول منها أن: "لكل إنسان الحق في الحصول علي مساعدة إنسانية مناسبة تضمن له حقه في الحياة والصحة والحماية من أي معاملة وحشية أو مذلة".

وصف "كرامة" وكذلك وصف "حماية من أي معاملة وحشية أو مذلة" لا يطبق اليوم في كثير من المناطق التي تعيش نزاعات وحروبا، وأكثر ما يدل على ذلك تلك المشاهد التي تبثها القنوات الإعلامية اليوم للناس المتجمعين بانتظار الإغاثة التي ستنقذ حياتهم وحياة أحبابهم من الموت جوعاً؛ والتي تصيب من يشاهدها بألم وغصة كبيرة، وشعور بالأسى العميق الذي لا يمكن تجاوزه بسهولة، فطرق تقديم تلك المساعدات لا يحمي من المذلة، ولا يحفظ كرامة الإنسان.

عجز دولي عن تقديم المساعدة

ما يجري في غزة منذ أشهر يجعلنا نتوقف كثيرا أمام الصمت الدولي غير المبرر، الذي لا يكاد يحرك ساكنا أمام ما يجري من حصار وتجويع وإبادة جماعية بحق الفلسطينيين، ولا يقوم إلا بتقديم التصريحات والمناشدات التي لا تسمن ولا تغني من جوع، لكن الأفظع من ذلك تلك الطرق التي تلجأ لها بعض الدول اليوم لتقديم المساعدات التي تلقيها على رؤوس الجوعى والمحتاجين في غزة، لتقتلهم مادياً ومعنوياً قبل أن تغيثهم، والأكثر فظاعة تلك الحجج التي تسوقها وسائل الإعلام لتبرير هذه الطرق بأنها لتعويض تعطل المساعدات البرية، دون أدنى ذكر لإسرائيل المتسبب الأكبر بذلك.

كان من المفروض على الأمم المتحدة التي احتفلت قبل أيام (21 مارس/ آذار) باليوم الدولي للقضاء على التمييز العنصري أن تجعل من موضوع تقديم المساعدات الإنسانية في الحروب دون تمييز عنصري، موضوعها الأساسي للاحتفال، خاصة مع كثرة الحروب والنزاعات والكوارث التي تظهر فيها بشكل واضح تلك المعايير المزدوجة في التعامل مع آلام الناس.

ما بين غزة وأوكرانيا

اندلعت الحرب في أوكرانيا قبل عامين، وكما وصفت الأمم المتحدة فإن الأزمة الإنسانية في أوكرانيا كانت واحدة من الأزمات الأفضل تمويلا في العالم، من خلال تغطية 69% من احتياجاتها، لكن اللافت في الأمر أن الأمم المتحدة حاليا تخشى من تراجع حجم هذا التمويل، خاصة وأن "الوضع الكارثي في غزة قد طغى"، حسب وصف الأمم المتحدة، إلى حد كبير على الوضع في أوكرانيا، رغم أن ما تم تقديمه إلى غزة حتى الآن من مساعدات لا يكاد يذكر أمام ما قُدم ويقدم لأوكرانيا، هذا إذا تحدثنا عن حجم المساعدات بالنسبة لعدد السكان، دون أن نتحدث عن طريقة تقديم هذه المساعدات ولا طرق توصيلها للمحتاجين.

موضوع المقارنة بين غزة وأوكرانيا هنا يفتح الباب أمام الحديث عن كيف يتحول تقديم المساعدات إلى طريقة للتمييز العنصري بين الناس الذين يعانون من الحروب. وكيف تكون سياسات الدول وأساليبها في تقديم هذه المساعدات صورة عاكسة للمصالح الفجة لتلك الدول، دون أي احترام للإنسان وكرامته بكونه إنسانا، بغض النظر عن عرقه أو قوميته أو دينه، وبغض النظر أيضا عمن يقوم بالعدوان على هذا الإنسان ويهدد حياته، أو يمارس عليه انتهاكات غير مقبولة في العرف الدولي الإنساني، مما دفع الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش للتذكير أن "المبدأ الأساسي للقانون الإنساني الدولي هو حماية المدنيين"، مع تأكيده أنه "يجب علينا أن نتمسك بالمبادئ في أوكرانيا كما هو الحال في غزة دون معايير مزدوجة".

مساعدات دون تمييز عنصري

كان من المفروض على الأمم المتحدة التي احتفلت قبل أيام (21 مارس/ آذار) باليوم الدولي للقضاء على التمييز العنصري أن تجعل من موضوع تقديم المساعدات الإنسانية في الحروب دون تمييز عنصري، موضوعها الأساسي للاحتفال، خاصة مع كثرة الحروب والنزاعات والكوارث التي تظهر فيها بشكل واضح تلك المعايير المزدوجة في التعامل مع آلام الناس، إذ يتم ترك ملايين الناس للجوع والموت لأسباب تمييزية حسب معطيات عدة.

وباسم الإنسانية وحقوق الإنسان التي يتغنى بها العالم دون تطبيق حقيقي، وباسم ضرورة سد الثغرات الموجودة في القانون الإنساني الدولي، والتي تظهر مع كل نزاع في العالم، فإنني أدعو كل المهتمين والمختصين إلى العناية بموضوع تقديم المساعدات الإنسانية بكرامة دون تمييز في الحروب والنزاعات، حتى لا تتحول المساعدات نفسها لطريقة لترسيخ العنصرية والتمييز العنصري.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.