شعار قسم مدونات

في رمضان.. وقائع وتساؤلات

من المهم اغتنام شهر رمضان لزراعة القيم في النفوس (غيتي)

في رمضان أسير بين الناس، أسمع أحاديثهم وألحظ مسلكهم، أراقب مشاغلهم واهتماماتهم، الفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي تنقل لي مشاهد الحياة وتفاصيل الأحداث التي يعيشونها، وأتأمل حالي وحالهم فيثور في نفسي السؤال: أهذا هو رمضان الذي ارتضاه الله لنا؟

رأيت كما رأيتم مظاهر الازدحام قبيل بدء الشهر في الشوارع والأسواق، وأمام المحال التجارية، في سعي محموم لتجهيز الاحتياجات لرمضان؛ فما هي هذه الاحتياجات؟ إنها المواد المطلوبة لإعداد ما لذ وطاب على موائد الإفطار، ويعجب المنصف مما يراه ويتساءل، أهذا شهر إقلال من الطعام أم شهر انكباب عليه؟

ويستدعي المقام أن نقارن الصورة التي نراها اليوم، بما يقابلها في عصور سالفة، فنقرأ منسوبا لأبي العباس هاشم بن القاسم قوله: "كنت عند المهتدي عشية في رمضان، فقمت لأنصرف فقال: اجلس، فجلست فصلى بنا، ودعا بالطعام فأحضر طبق خلاف عليه أرغفة، وآنية فيها ملح وزيت وخل، فدعاني إلى الأكل فأكلت أكل من ينتظر الطبيخ، فقال: ألم تكن صائما؟ قلت: بلى، قال: فكل واستوف فليس هنا غير ما ترى".  والكلام هنا ليس عن واحد من عامة الناس، بل عن المهتدي، خليفة المسلمين ورئيس الدولة في زمانه.

تساءل عن موقعنا؛ أترانا مع قوم سبقوا ففازوا، أم مع آخرين تخلفوا فخابوا؟ وفي بحثي عن الجواب يحضرني واقع إقبالنا على المسلسلات، وتمضيتنا الساعات الطويلة في عبث وتسلية نسعى بهما لتقطيع الوقت.

ألاحظ كما تلاحظون ما درج عليه الناس من دعوات بعضهم لبعض إلى موائد الإفطار، فأرى عليها أصحاب الوجاهة والمكانة، وأتفقد المساكين وأصحاب الحاجة فأكاد لا أجدهم، وأعود من جديد لأقارن صورة بصورة، فتطالعني من التاريخ صورة ابن عمر (رضي الله تعالى عنهما) إذ يصوم، ولا يفطر إلا مع المساكين، يأتي إلى المسجد فيصلي ثم يذهب إلى بيته ومعه مجموعة من المساكين، فإذا منعهم أهله عنه لم يتعش تلك الليلة. ويأتيه سائل وهو على طعامه، فيأخذ نصيبه من الطعام، ويقوم فيعطيه للسائل، فيرجع وقد أكل أهله ما بقي في الجفْنَةِ، فيصبح صائماً ولم يأكل شيئا..

يحضرني قول الحسن البصري (رحمه الله): "إن الله جعل رمضان مضمارا لخلقه، يستبقون فيه إلى مرضاته، فسبق قوم ففازوا، وتخلف آخرون فخابوا؛ فالعجب من اللاعب الضاحك، في اليوم الذي يفوز فيه المحسنون، ويخسر فيه المبطلون"، وأتساءل عن موقعنا؛ أترانا مع قوم سبقوا ففازوا، أم مع آخرين تخلفوا فخابوا؟ وفي بحثي عن الجواب يحضرني واقع إقبالنا على المسلسلات، وتمضيتنا الساعات الطويلة في عبث وتسلية نسعى بهما لتقطيع الوقت، ولنخدر مشاعرنا فلا يتسلل إلينا أي أثر لألم الجوع، وكأننا نسينا أنه هو الوقت الذي كان المسلمون الأوائل يرونه فرصة ثمينة للإقبال على الله والقرب منه، فيستغلون دقائقه ولحظاته في فعل الطاعات، طلبا لنيل رضوان الله وغفرانه، واتقاء عذاب جهنم وحرها، وسعيا في الوصول إلى منازل في الجنة عالية، يفتح لهم في رمضان الباب واسعا لإدراكها.

على أرض فلسطين يكون لرمضان مع الانتصار موعد عظيم في حطين سنة 583 للهجرة، فيه تكسر شوكة الصليبيين ويتحرر المسجد الأقصى؛ لتأتي بعد ذلك سنة 658 هـ ويعود رمضان فيها من جديد ليشهد نصرا عظيما آخر في عين جالوت يوقف طغيان التتار ويذلهم.

أعود إلى التاريخ فأقرأ عن فتوح عظيمة كانت في رمضان، عن غزوة بدر التي كانت حدا فاصلًا بين الشرك والإيمان، والضلال والهدى، والشر والخير، والباطل والحق؛ عن فتح مكة الذي أتم الله فيه النصر للإيمان، وطهرت فيه البلاد من رجس الأوثان.

وأعرف أنه في السادس من رمضان سنة 92 للهجرة بدأ حصار كراتشي عقب أسر قراصنة المنطقة لعدد من النساء المسلمات، واستغاثة هؤلاء بخليفة المسلمين، ويكون الذي حدث نقطة البداية لفتح السند، ثم تتعاقب الأعوام ليأتي رمضان آخر ويتحقق فتح آخر عقب صرخة استغاثة أخرى أطلقتها امرأة مسلمة في سوق عمورية عندما اعتدى رومي عليها، وتصل الصرخة إلى المعتصم فيحرك لأجلها جيشًا يفتح عمورية، ويأتي بالعلج حتى يوقفه في ذلة أمام المرأة.

وعلى أرض فلسطين يكون لرمضان مع الانتصار موعد عظيم في حطين سنة 583 للهجرة، فيه تكسر شوكة الصليبيين ويتحرر المسجد الأقصى؛ لتأتي بعد ذلك سنة 658 هـ ويعود رمضان فيها من جديد ليشهد نصرا عظيما آخر في عين جالوت يوقف طغيان التتار ويذلهم.

أستحضر كل تلك الوقائع، وأبحث عن ظلها في واقعنا اليوم، وأتساءل عن أثر معانيها في نفوسنا وعلو همتنا؛ فأجد الإجابة تقطر بالأسى، ويلخصها مشهد الكم الهائل من الخذلان الذي كان منا لغزة، ولآلام أهلها وصرخاتهم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.