شعار قسم مدونات

مسوغات إصلاح الحسبة في دولة المماليك!

التاريخ الإسلامي - إصلاح دولة المماليك
كانت ولاية الحسبة مقتصرة على مراقبة الأسواق وتوسعت في عصر الدولة العباسية حتى شملت الإشراف على المساجد والطرقات (الجزيرة)

يعرف ابن خلدون الحسبة بأنها: "وظيفة دينية من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو فرض على القائم بأمور المسلمين يعين لذلك من يراه أهلا لها". ولأهمية دور الحسبة الرقابي والإلزامي في المجتمع كانت أهم ولايات الدولة رغم أنها تأتي خامسة الوظائف الدينية -كما قاله القلقشندي- وذلك "لارتباطها أكثر من غيرها بحياة الناس اليومية عامتهم وتجارهم وصناعهم".

أخذ نظام الحسبة يتطور وتتوسع مهام المحتسب في الدولة الأموية تبعا لاتساع رقعتها والحاجة لاستحداث مدن جديدة، أو التوسع في المدن القديمة، فأدى ذلك إلى انتشار الأسواق وكثرتها

وقد رأى عدد من الباحثين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد مارس الحسبة بنفسه، وذلك أنه ﷺ قد مر على صبرة طعام فأدخل يده فيها، فنالت أصابعه بللا فقال: «ما هذا يا صاحب الطعام؟» قال: أصابته السماء يا رسول الله، قال: «أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس، من غش فليس مني»، ثم مارسها خلفاؤه من بعده، وعين رسول الله وخلفاؤه محتسبين على الأسواق.

ثم أخذ نظام الحسبة يتطور وتتوسع مهام المحتسب في الدولة الأموية تبعا لاتساع رقعتها والحاجة لاستحداث مدن جديدة، أو التوسع في المدن القديمة، فأدى ذلك إلى انتشار الأسواق وكثرتها، وتطلب ذلك من الدولة فرض الرقابة على ما يباع فيها ويشترى وغيره. ثم تطور نظام الحسبة في الدولة العباسية تطورا كبيرا، وبدأ يأخذ شكلا مغايرا لما كان عليه سابقا "وتم تقرير المنصب باعتباره أحد فروع القضاء، وحددت فيه شروط الولاية، ومهام المتولي، بحيث لم يزد عليه من جاء بعده شيئا يذكر، وبقي النظام الذي وضعه الخلفاء العباسيون مسارا لكل الدول من بعدهم، حتى عهد إلغاء الخلافة العثمانية".

فبينما كانت ولاية الحسبة مقتصرة على مراقبة الأسواق، ويسمى القائم عليها: عامل السوق، أو صاحب السوق؛ فإنها قد توسعت في الدولة العباسية حتى شملت الإشراف على المساجد والطرقات، ومراقبة بعض الوظائف والمهن وغير ذلك، وصار يسمى القائم عليها: المحتسب، ومعه جهاز مستقل بذاته، وله مكوناته الخاصة.

ولـما ورث المماليك دولة الأيوبيين لم يجدوا تغيرا يذكر في نظام الحسبة؛ إلا ما لا بد منه تبعا لتطور الزمان والمكان، ومن أهم ذلك: ضرورة علم المحتسب بمكاييل أهل الشام ومصر وأوزانهم ونقودهم. وقد كانت مؤسسة الحسبة زمن المماليك تتألف من: المحتسب، والعرفاء، ونواب الحدود، ونواب الموانئ، ونواب الآداب العامة، والشرطة والمدراء، وكان يقوم على الحسبة بداية عهدهم كبار الفقهاء من المعممين، وكانت العامة تجلهم وتقدرهم.

ولـما نخر الفساد عموم مؤسسات دولة المماليك لم تسلم من ذلك مؤسسة الحسبة المؤسسة المعنية بمراقبة الفساد والنهي عنه، بل صار القائمون عليها يرعون المنكر ويحمونه حتى غدت الحسبة معولًا هداما بيد المحتسبين، وصارت العامة تحتقرهم، وتطلب من السلطان عزلهم؛ فقال فيها الطرسوسي: "وأما أمر الحسبة فاعلموا -رحمكم الله تعالى- أن أمرها قد فسد، واستحكم فساده، وكثر الطمع في أموال الناس بسببها، وقد بقيت فتنة فلا يحل للسلطان أن يوليها أحدا، ولا حاجة للناس بها".

قال ابن تغري عن محمد بن شعبان إنه: "ولي حسبة القاهرة بالسعي مرارا كثيرة، وكان عاميا يتزيا بزي الفقهاء حدثني من لفظه قال: وليت حسبة القاهرة نيفا وعشرين مرة"، وتولى الحسبة زمن السلطان برقوق أحد باعة السكر بالرشوة، فقال المقريزي في ذلك: "فكان هذا من أشنع القبائح، وأقبح الشناعات"

وأرى أن كل أسباب فساد مؤسسة الحسبة تجتمع في شيوع الرشوة فيها، ذلك أن الرشوة قد انتشرت زمن المماليك انتشارا كبيرا، وكان ذلك من أفظع مظاهر فساد الدولة وأبشعها، وقد قال المقريزي في ذلك: "فتخطى لأجل ذلك كل جاهل ومفسد وظالم وباغ إلى ما لم يكن يأمله من الأعمال الجليلة والولايات العظيمة، لتوصله بأحد حواشي السلطان، ووعده بمال للسلطان على ما يريده من الأعمال"؛ إلا أن من أبرز صور فساد دولة المماليك: شيوع الرشوة في مؤسسة الحسبة المؤسسة المعنية برصد الفساد وإصلاحه، فقد أصبحت وظيفة الحسبة لا تنال إلا بالرشوة يبذلها البعض للسلاطين فينالها منهم من يدفع أكثر.

وقد ذكر الإمام ابن حجر من أحداث سنة: (809ه) فقال: "ووقع في هذه السنة والتي بعدها والتي قبلها من تلاعب الجهلة بمنصب الحسبة ما يتعجب من سماعه، حتى أنه في الشهر الواحد يليه ثلاثة، أو أربعة، وسبب ذلك أنهم فرضوا على المنصب مالا مقررا، فكان من قام في نفسه أن يليه يزن المبلغ المذكور ويُخلع عليه، ثم يقوم آخر فيزن ويصرف الذي قبله، واستمر هذا الأمر في أكثر دولة الملك الناصر فرج".

وقد أدى ذلك الحال إلى أن نال الحسبة جهال الناس وعوامهم، ومن لا يصلح لها، وانعكس ذلك فسادًا على المجتمع. قال ابن تغري عن محمد بن شعبان إنه: "ولي حسبة القاهرة بالسعي مرارا كثيرة، وكان عاميا يتزيا بزي الفقهاء حدثني من لفظه قال: وليت حسبة القاهرة نيفا وعشرين مرة"، وتولى الحسبة زمن السلطان برقوق أحد باعة السكر بالرشوة، فقال المقريزي في ذلك: "فكان هذا من أشنع القبائح، وأقبح الشناعات"، ثم تولاها محمد بن الشاذلي الذي قال فيه ابن حجر: "كان عريًّا من العلم غاية في الجهل..، ثم ترقّى إلى أن ولي حسبة مصر، ثم القاهرة مرارا بالرشوة".

المحتسبين صاروا معنيين بجمع أكبر قدر من المال من التجار والعوام يقضون به ما بذلوه لنيل الحسبة، أو ليقوموا بما تعهدوا به للسلطان كل شهر، وكان ذلك الحال من أسباب التدهور الاقتصادي الذي أصاب الدولة أيضا كما قال المقريزي

وقد نقلت لنا بعض كتب التأريخ أن تلك الرشاوى التي كانت تدفع للسلاطين قد كانت مبالغ كبيرة جدًا، فمن ذلك أن شمس الدين بن يعقوب قد ولي الحسبة بهدايا دفعها للسلطان: المؤيد شيخ بلغت قيمتها: عشرة آلاف دينار، وهو الذي قال فيه المقريزي: "فلم تحمد سيرته، ولا شكرت طريقته"، بل لقد تعاظم الأمر فيما بعد حتى إن الزيني بركات تولى حسبة الجهات الشرقية من المطرية إلى دمياط بعد أن التزم للسلطان برشوة قدرها: (400) ألف دينار كل سنة يقوم بذلك على ثلاثة أقساط، ومكث فيها إحدى عشرة سنة، ثم خلفه فيها الأمير: ماماي الصغير بعد أن بذل للسلطان خمسة عشر ألف دينار؛ فقال ابن إياس في تلك الأموال: "وهذه الأموال العظيمة التي سعوا بها هؤلاء ما يستخلصونها إلا من أضلاع المسلمين، والأمر لله".

واستمر فساد الحسبة في تصاعد حتى سقوط دولة المماليك، وكان من صور الفساد أن صار الأمراء أرباب السيوف يتولون هذه الوظيفة بعد أن كان لا يتولاها إلا المعممون من الفقهاء أو القضاة؛ وذلك طمعا منهم في المال الكثير الذي كان يجنيه المحتسب من وراء هذه الوظيفة، ومن ذلك أن السلطان: مؤيد شيخ ولى الأمير منكلي حسبة القاهرة، ثم صار الأمراء يبذلون المال للسلطان لتولي الحسبة، وكان الأمير تنم أول تركي ولي الحسبة بالبذل، وذلك مما شهده عصر المماليك الثاني من كثرة منافسة أرباب السيوف للفقهاء على المناصب الدينية طمعا في المال فتولوا لذلك الحسبة، ونظارة الوقف، وغيرها من الوظائف الدينية التي تدر عليهم المال، ولولا جهلهم بالشرع لتولوا القضاء أيضا.

فغاب لأجل ذلك وغيره مقصد الحسبة الإصلاحي؛ لأن المحتسبين صاروا معنيين بجمع أكبر قدر من المال من التجار والعوام يقضون به ما بذلوه لنيل الحسبة، أو ليقوموا بما تعهدوا به للسلطان كل شهر، وكان ذلك الحال من أسباب التدهور الاقتصادي الذي أصاب الدولة أيضا كما قال المقريزي؛ ذلك أن أولئك المحتسبين كانوا يغضون الطرف عن فساد المجتمع، وغش التجار للبضاعة، ونحوها من المخالفات؛ لأجل الحصول على المال الذي فرضوه عليهم، وصاروا يعملون على غلاء الأسعار وقت الأزمات، ويتواطؤون مع التجار والأمراء على احتكار البضائع بمال يبذل لهم. الحال الذي حمل عددًا من العلماء لتقديم الرؤى الإصلاحية لمؤسسة الحسبة في دولة المماليك.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.