شعار قسم مدونات

‏مذابح الفن واستحياء المشخصاتية!

بوستر مسلسل بابا جه
بوستر مسلسل بابا جه والذي يعرض في رمضان الجاري لعام 2024 (الجزيرة)

طغى علينا في شهر رمضان المبارك غثاء من سيل المسلسلات الدرامية التي تلاحقنا في جل قنوات التلفزة، تتنافس بينها لتجعل من الشهر سوقا استهلاكية لما تنتجه من دراما ومسلسلات، لكن بدا لي من متابعة بعض المعلقين تبرمهم بالمحتوى الهش والإخراج البائس الذي تقدمه هذه المسلسلات وضحالة المضمون المعرفي فضلا عن تعاليه عن جراح الشعوب وهمومه أو انحداره نحو الاسفاف والتطبيع مع الرزيلة.

هذه الظاهرة أعادت لذاكرتي الهجوم الحاد الذي شنه الأدباء والشعراء على شعراء البلاط فكان أحمد مطر يصب جام غضبه على الشعر الميت قائلا: كَفَرتُ بالشِّعرِ الذي لا يُوقِفُ الظُّلمَ ولا يُحرِّكُ الضمائرْ. لَعَنتُ كُلَّ كِلْمَةٍ لمْ تنطَلِق من بعدها مسيره ولمْ يخُطِّ الشعبُ في آثارِها مَصيره.

النهضة الأوربية التي تلت العصور الوسطى بدأت في إيطاليا لعب فيها الرسامون دورا بارزا حين جسدوا المعاني الإنسانية وأعلوا من قيمة الإنسان وقدرته مثل رسومات مايكل أنجلو ولوحات لورند دافنتشي.

وفي نفس المعنى قال نزار قباني:

والشعر ماذا سيبقى من أصالته؟ .. إذا تولاه نصاب ومداح.

لقد كان الصراع قديما حتى في زمن الجاهلية بين الأدب العالي والأدب الهابط فلم تكن العرب في الجاهلية تقدم القصيدة للجمهور وتشهرها بين السامعين إلا أن تجوز الاختبار في سوق عكاظ ليتم نخبها وتنقيتها من الشوائب التي تعكر على السامعين تذوقه.

إن هذا الاهتمام الكبير بالفن ورسالته عند الأدباء والشعراء والفنانين آتية من وعيهم بقدرة الفن على التغيير الشامل لثقافة المجتمعات، فالنهضة الأوربية التي تلت العصور الوسطى بدأت في إيطاليا لعب فيها الرسامون دورا بارزا حين جسدوا المعاني الإنسانية وأعلوا من قيمة الإنسان وقدرته مثل رسومات مايكل أنجلو ولوحات لورند دافنتشي.

من هنا وأمام إن هذا الانحدار المهول في مهنة الفن ورسالته نعود إلى نقطة تحرير المصطلحات والتفريق بين الفنان والمشخصاتية كما كان يسمى ممتهن مهنة التمثيل بداية القرن العشرين.

المشخصاتي هو استعراض جسدي رخيص ومفردات سوقية تثير الغرائز الحسية وتؤجج السعار الشهواني تسجن المعنى وراء قضبان الرقابة وتحقن الوعي بالأفيون المخدر عن رؤية الحقيقة لتمنع استيقاظ الضمير

الفنان ملتزم بقضايا الإنسان ومطالبه في التحرر والعدالة ويعبر عن ضمير الإنسان بلغة الفن والدرما، الفنان يتحدى السلطة ويهدم كبريائها ويقلم مخالب سطوتها لتكون خادما لمصالح الإنسان راعية لحقوقه وتطلعاته الفنان في صف الثورة ضد الاستبداد وفي خندق العلم ضد الخرافة وفي حشود الشعب ضد الاضطهاد. كما يقول جورج أورويل "الفن الملتزم يعتبر أداة قوية لتحفيز التغيير الاجتماعي والسياسي، وتسليط الضوء على الظلم والاضطهاد."

أما المشخصاتي أجير عند السلطة والمستبد يقدم مادة للتسلية لا تلتزم قضيا الإنسان لكنها تعبر عن توجهات السلطة ويعمل كأحد ادواتها العمياء في تهجين الشعوب وتدجينها السلطة إنه مرآة عاكسة لتوجهات السلطة، يبيع الفن في سوق مصالحها ودعم سياستها. يمثل المشخصاتي الصوت الرسمي للحكومة والنظام، ويعمل على تبرير أفعالها وتسخيف الآراء المناوئة لها، المشخصاتي لا يسعى لكشف الحقائق الخفية أو الوقوف مع الضعفاء، بل هو في صف السلطة على الدوام والسلطة دائما على حق حتى نقده للسلطة على خشبة المسرح هو مجرد تمثيل وتنفيس عن حنق المسحوقين لا يلتزم منه بشيء عندما يطلب الشعب منه موقفا من السلطة.

الفنان يستثير كوامن الروح الخامدة في رماد الجسد المنهك، ويقرع على مسمعنا ناقوس الخطر على الدوام يقلقنا بما يلقي على عيوننا من مسؤولية يضعنا أمام مرآة عيوبنا، يوقظنا من رقدة الثبات والسلبية والانكفاء، الفنان في جوهر رسالته روح إبداعية حرة تسعى للتعبير عن الإنسانية لا يرضى بفم مقفل ونص مكتوب جاهز، يجسد المعاناة والمعنى والأحلام والأمل في صور من الإلهام الباعث للروح الخاملة. ينطلق الفنان في صياغة فنه من مكان عميق ويحفر في الذات ليقدم رسالته المعبرة عن التطلعات، يستخدم إبداعه وموهبته ليكون صوت الضعفاء والمهمشين، الفن في فلسفته ليس أداة للتطويع والتطبيع، بل هو سلاح قوي لتغيير الواقع والتأثير في المجتمع قيميا وسلوكيا.

أما المشخصاتي فهو استعراض جسدي رخيص ومفردات سوقية تثير الغرائز الحسية وتؤجج السعار الشهواني تسجن المعنى وراء قضبان الرقابة وتحقن الوعي بالأفيون المخدر عن رؤية الحقيقة لتمنع استيقاظ الضمير إنه طبل يقرع في طبل السلطة يصنع سلم الشهرة من محبة الجمهور ليتسلق الفن جسرا إلى مجتمع النخبة والنعيم ثم ينظر إلى التعساء والمحرومين من مكانه المرتفع، يستنقع في وحل الواقع بعد أن يكسر الريشة والألوان ويتوب على يد الدولة من رسم المستقبل للشعوب ويعبث في صناعة أصنام الطين.

الفنان صاحب رسالة أخلاقية له موقف مبدئي من كل قضية إنسانية أو حتى وطنية وتمثل الخيانة لقيمها سقوطا مدويا وخيانتها أن يعيش موقفه في الحياة بطريقة معاكسة لما تقدمه من دعوة للحق والعدل والكرامة

بينما المشخصاتية موقف نفعي من السلطة لا يهم ان يتناقض  في مواقفه مع كل ما يقدمه من " فن" لأن الفرق بين المشخصاتي والفنان هو نفس الفرق بين الريبوت والإنسان، فالريبوت مبرمج لأداء وظيفته لا يحمل المشاعر ولا الإحساس ولا يتخذ موقفا أخلاقيا من الأحداث بينما الإنسان لا يفعل إلا ما يتسق مع ضميره وإيمانه ذلك لأن الفنان منتم إلى جذور عميقة من الذات الحضارة والتراث والهوية والثقافة بينما المشخصاتي عابر بلا انتماء ولا جذور علاقته بالمكان والزمن والثقافة والقيم علاقة عابرة تحكمها المصلحة الأنانية مستورد للثقافة مقلد لقشور التحضر.

الفن يحمل القوة لتشكيل ثقافة المجتمع وتحديد مساره المستقبلي

  • هربرت ماركوز

إن الإخراج المبهر للفن الهابط والإثارة المفتعلة لا تغيير من حقيقته شيء كما قال تولستوي " إن الأدب الفارغ مثل السم الذي يجري في أوعية ذهبية".

و إن محاولة دفن الفن واستنبات المشخصاتية ليس مجرد انحطاط بريء يساير تردي الذوق العام أو محاولة لتسليط الضوء على المساحات المظلة من واقعنا الاجتماعي كما يدعي البعض بل هو حلقة في سلسلة طويلة لتهجين المجتمعات عبر ثقافة الصورة والدرما والتدحرج المنحدر بها من الموقف الرافض للتطبيع مع الانحطاط الأخلاقي إلى الموقف السلبي الصامت الذي لا يقبل ولا يرفض ثم دحرجته ثانية إلى الموقف الإيجابي الذي يقبل بكل الشرور عبر خلق القدوات والرموز المنهزمة وبذلك يتولد المجتمع البهائمي الجديد الذي يسهل قيادته من قبل السلطة بمجرد استخدام العصا والجزرة.

وأختم بقول هربرت ماركوز "الفن يحمل القوة لتشكيل ثقافة المجتمع وتحديد مساره المستقبلي".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.