شعار قسم مدونات

في غزة.. أمومة كاملة الدسم والحب والوجع!

تعيش المرأة الفلسطينية في غزة واقعا مأساويا غير مسبوق فهي إما أرملة أو ثكلى أو مفجوعة وفي أحيان أخرى مفقودة (وكالة الأناضول)

"دفيهم منيح، أمانة عليك"، أم تستأمن زوجها أن يلقي على أبنائه شيئا يقيهم برد الشتاء، يبدو نداء لا غرابة فيه إلى أن تعلم بأن أبناءها شهداء يحملون إلى مأواهم الأخير، وهي تخاف عليهم برد القبر وحدهم، يبدو نداء لا غرابة فيه إلى أن تدرك بأنه على لسان أم تلقي نظرتها الأخيرة على أبنائها الثلاث.

لم يك مشهدا من فيلم أو عرض مسرحي إلا أنه واحد من مشاهد لا حصر لها وصلنا من غزة بعضها، والله عليم بكثير مما خفي عنا.

يعلو من غزة نحيب الأمهات اللائي لا يجدن لأبنائهن واقيا من جوع، ولا يعرفن كيف يجبن على كم التساؤلات التي لا انتهاء لها في برد ليل خيمة قارس وصوت قصف يزلزل الأرض والسماء

يعج العالم بورشات تدريبية وشعارات وحملات حول النساء وحقوقهن، حتى نكاد نصدق أن هذا هو عصر ثورات النساء، ثم يذهب قبل أيام قليلة دومينيك ألن، مسؤول الأراضي الفلسطينية في صندوق الأمم المتحدة للسكان، إلى غزة يومين يتفحص بهن الأحداث على الأرض، فيعود للقدس ليخرج عبر مؤتمر صحفي ليقول: " شخصيا، غادرت غزة هذا الأسبوع وقد انتابني الخوف على مليون امرأة وفتاة فيها، وعلى ستمئة وخمسين ألفا من الإناث في سن الإنجاب، وخصوصا على مئة وثمانين امرأة يلدن كل يوم ويعانين الجوع والجفاف"، وحقيقة لم ننتظر تصريحاته حتى ندرك أن المرأة في غزة أما وابنة وخالة وعمة وجدة تموت في اليوم ألف ميتة، وإن لم تك هي الشهيدة.

في يوم الأم تعلو أصوات أغاني الأمهات على شاشات التلفاز وفي المذياع، ويعلو من غزة نحيب الأمهات اللائي لا يجدن لأبنائهن واقيا من جوع، ولا يعرفن كيف يجبن على كم التساؤلات التي لا انتهاء لها في برد ليل خيمة قارس وصوت قصف يزلزل الأرض والسماء، ثم إذا مات الابن سمعناها تبكي بكاء العمر كله واصفة حاله، "مات جوعان، مات غلبان"، أتظنها تشبع بعدها أو يطيب لها من نعيم الأرض شيئا؟

في يوم الأم نتناقل الصور لأمهاتنا وأمهات الناس من حولنا يحملن أو يحضن أبنائهن حبا لا شبيه له، وفي غزة فإن حظ الأمهات عال إن استطعن حمل أبناءهن جثث في أكياس، ولم يفقدن أطفالهن تحت أنقاذ البيت فباتوا أشلاء أو رمادا.

كانت صورا لم يملك معظمنا إكمال النظر إليها، عندما نقلت لنا صور أطفال الخداج وهم يقتلون ببط على مرأى العالم كله، أو وهم قد تحللت جثثهم نتاج تركهم وحدهم أمام العدوان على المستشفيات، كان المشهد ثقيلا على قلوبنا إلى الحد الذي لا يمكن تجاوزه، وعلى قلوب أمهاتهم كان جحيما من وجع لا انتهاء له.

راقبوا الأمهات بداية قدوم أطفالهن إلى الحياة، تجدوا معظمهن ينظرن إلى أطفالهن وهم نائمئن، لكأنهن يحاولن الارتواء من براءة الوجوه والأرواح، "خلوني أشوفها نتفة.. حطي قلبي ع قلبك يمى"، تقولها أم وهي تودع ابنتها الشهيدة، نظرة المحبة الأولى هي الأخيرة هذه المرة، ولقد كانت ترجو الله أن تراها عروسا وفي أعلى المناصب.

في يوم الأم وفي غيره يذكر أحدنا سند الأم في عمره، كيف تحضر في تفاصيل حياته، وكيف يسند قلب أحدنا صوتها ودعاءها، بل كيف حتى بعد وفاة الراحلات منهن يبقى في برها جبرا للأرواح، ويذكر المجاهد في فلسطين كيف ربته أمه، ويذكرالأسير معاناة الأمهات اللاتي يخرجن قبل الفجر ينتقلن من مدينة إلى أخرى ومن تفتيش إلى أخر ومن تشديد إلى غيره، ابتغاء عشرة دقائق يرين بها ابنهن الغائب لسنوات من وراء حجاب القضبان، ولربما لا تحظى بذلك مرات عدة، وأما من حظيت بلقاء فتحاول أن تضم كل الأسرى بدعائها وحنان نظراتها ولهفة سؤالها لكأنهم جميعهم أبناءها، تماما كما فعلت أم نضال فرحات، خنساء غزة التي دفعت بأبنائها إلى الجهاد حبا وإيمانا، وجعلت بيتها قبلة المجاهدين يلجؤون إليه ليجدون عندها أمن وغذاء واحتواء، فيكون من بين الحاضرين لديها مدة طالت إلى حين شهادته، عماد عقل، مدبر العمليات الذي أرعب الاحتلال سنين طوال، وما ذلك بغريب فحنان الأمومة لا يتجزأ بل يشمل الجميع.

في مطلع العام قدم تقرير من هيئة الأمم المتحدة للمرأة، لا يحمل إنجازات النساء وعدد الحاصلات على مناصب وغيره، بل حمل إحصائية تبين أن اثنتين من الأمهات تقتلن كل ساعة في غزة

في يوم الأم، تذكروا طفلةً حاولوا إخفاء استشهاد أمها عنها، فصرخت أمام مرآنا جميعا: "هذي إمي.. أنا بعرفها من شعرها"، لقد عرفنا أمهاتنا ذات عمر من رائحتهن، ثم بتن في حايتنا كلها معرف لا ينكر أبد، وهي عرفتها من شعرها، من رائحتها، من طيفها، من كل شيء انتابها لحظة المرور جانبها، وإدراك أنها للأبد قد فقدتها.

في يوم الأم، تذكروا ثمانية آلاف وتسعمائة شهيدة، معهن ثلاث وعشرون ألف مصابة، وأكثر من ألفي امرأة مفقودة، ومليون امرأة نازحة، وستين ألف سيدة حامل يرتعبن من يوم الولادة، لا لأخبار سمعنها ممن قبلهن بل من عدم وجود أدنى معايير الصحة. هذه ليست مجرد أرقام الإحصائيات التي قدمها إسماعيل الثوابتة، مدير عام المكتب الحكومي في غزة، لمراسل وكالة الأناضول الأسبوع المنصرم، إلا أن وراء كل واحدة منهن عائلة هي لها الدفء أجمعه، والحياة كلها.

في يوم الأم، تذكروا الأم التي قالت عدد الإبر التي أخذتها من أجل الإنجاب، هل لا تعد الإبر لأجل الإبر نفسها، بل لعدد المرات التي انتظرت فيها أنفاس طفل أرادات أن يكبر وتراه في خير المواضع وترى ابناءه وأحفاده، ثم رأته شهيدا في سنواته الأولى.

في مطلع العام قدم تقرير من هيئة الأمم المتحدة للمرأة، لا يحمل إنجازات النساء وعدد الحاصلات على مناصب وغيره، بل حمل إحصائية تبين أن اثنتين من الأمهات تقتلن كل ساعة في غزة، وتقرير آخر قال أن "أربعةً من كل خمسة نساء لا تتوفر لأسرهن نصف كمية الغذاء اللازمة"، وأما تقرير غيره فأشار أن "المرأة الفلسطينية تدفع الثمن الأعلى للحرب".

هذه التقارير والأرقام ليست للأرشفة، لكنها لتعيد تعاريف المصطلحات من جديد، فالأمومة في العالم كله مبينةٌ على جمع مختلف من المشاعر، ما بين حنان وخوف ووهن وتعب ولهفة وارتقاب، وأشياء لا تعرف إلا أننا نفهمها جميعنا مباشرة كلما قلنا "ماما.. أمي.. يما.. في أي اللهجات كانت"، أضيفوا لذلك كله سطورا من التعاريف التي لا حد لها لأم لم تشعل النار تحت طهي في بيتها ما دام ابنها في الأسر، لا تتخيل أن تعد الطعام وابنها في الجوع يجلس في زنزانته، لم تفعل ذلك إلا مرة عندما أتى أصدقاء أسره المحررين قبله زائرين، فأعدت لهم طعاما لكأنهم هو، لأم ودعت في الضفة أبنائها الشباب الأربعة شهداء في يوم واحد جراء ضربة من عدو واحد، لأم شكرت الله في طولكرم أنها استطاعت دفن ابنها الشهيد كاملا، لأم استشهد ابنها الشاب فإذا بها تأخذ على عاتقها أن تذهب لكل أم شهيد تسمع عنها تحاول أن تشد أزرها وتربط على قلبها، لأم تم اعتقالها لأنها المرابطة في أبواب أقصانا أو الناشطة في قدسنا أو بلا سبب، فلم تخف على نفسها بل على التهديد القادم لبناتها، والوجع الذي تعلم أنه أصاب أبناءها عندما نزع  عنها حجابها، لأم ثكلى أو أرملة أو شهيدة أو أسيرة أو جالسة في البيت تستودع أبنائها في اليوم مئة مرة بل أكثر ألا ينال منهم عدو لا على حاجز ولا غيره، لكل أم في البلاد كلها من نهرها إلى بحرها ومن شمالها إلى جنوبها؛ فهذه أمومة كاملة الدسم، كاملة الحب، كاملة الوجع، كاملة الخير.

سلام على أم في غزة وفلسطين وددنا لو أنا نقبل كلنا رأسها وأيديها، سلام على أم نزحت من البلاد يوما فبقيت للأجيال والأحفاد حكاية الوط وذاكرة الزمان، سلام على أم لم تطئ أقدامها ثرى فلسطين يوما لكنها تربي أبناءها أن القدس لهم وأن الأرض لا يعيدها غيرهم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.