شعار قسم مدونات

العودة على ضوء الفسفور الأبيض

محاضرة الدكتور غسان أبو ستة في كامبردج بعد عودته من قطاع غزة (الجزيرة)

الساعة الثامنة صباحا، وصلت شرطة مكافحة الإرهاب البريطانية بيتا في شمال لندن، يعلمون أن الرجل الذي جاؤوا لأجله ليس في بيته، بل ولأجل هذا بالتحديد جاؤوا لإيصال الرسالة.  وعلى مدار ساعة كاملة تم التحقيق مع زوجته، في محاولة للتخويف وإثارة رعبها على زوجها الغائب وما قد ينتظره عند عودته.

لا أحسبها ظنت، قبل السابع من أكتوبر، أن طبيبا بريطانيا مرموقا حسن السيرة، تتعرض أسرته لمثل هذا الذعر وهو يؤدي واجبه، لكنه حدث مع الدكتور غسان أبو ستة، وهو على رأس عمله في مستشفى الشفاء الطبي شمال قطاع غزة المحاصر.

طبيب الحروب، أخصائي التجميل والترميم، حول مهنة تروج للجمال كسلعة استهلاكية مجردة من القيمة، إلى أثر يغرز أملا في حياة كل طفل فلسطيني مر بين يديه.

هذا الطبيب والذي ذاع اسمه كثيرا على شاشات التلفاز في الحرب الأخيرة المستمرة على قطاع غزة. تاريخه الطويل يؤكد لنا ما نعرفه، أن فلسطين حين تكون محور أفعال المرء وبوصلته فلا بد لبلاد البركة أن تصيبه، ولا بد أن يجد لخدمتها سبيلا.

وثق الدكتور غسان شهادته، وكتب الله له النجاة ليرويها. كي يسمعها الرجل الأبيض مضطرا، ولتستخدمها دولة جنوب إفريقيا في محكمة العدل الدولية لمقاضاة إسرائيل بتهمة الإبادة الجماعية.

فترة الانتفاضة أخذ إجازة طويلة من غير راتب مدفوع من عمله ورابط في مستشفيات البلاد يدعم صمود أهلها. شهد في غزة جميع الحروب الماضية. بدءا من حرب عام 2009 والتي عمل فيها مع أستاذته الماليزية التي كان لها بالغ الأثر في توجيه مسار مهنته نحو فلسطين. بركة علمه امتدت إلى علاج المصابين في العراق واليمن والثورة السورية في لبنان.

أدرك أن الرد الإسرائيلي سيكون عنيفا على حدث مثل السابع من أكتوبر. كان بعد أقل من يومين في معبر رفح متوجها إلى شمال القطاع.  يمارس مؤقتا، حق العودة الذي يحلم به كل فلسطينيي في الشتات.

ولأنه لا حلم تحت الاحتلال، قضى الدكتور غسان أربعين يوما في غزة يناله ما نال من ولد محاصرا فيها لا يعرف سواها؛ قصف بيت عائلته، استشهد العديد من زملائه، وقع عليه سقف غرفة العمليات في مجزرة مستشفى المعمداني، ثم خرج بعد اشتداد الحرب وفراغ يده من كل وسيلة يسخر بها علمه لإنقاذ الأبرياء.

وثق الدكتور غسان شهادته، وكتب الله له النجاة ليرويها. كي يسمعها الرجل الأبيض مضطرا، ولتستخدمها دولة جنوب إفريقيا في محكمة العدل الدولية لمقاضاة إسرائيل بتهمة الإبادة الجماعية. وحين أعلن عن موعد محاضرته في كامبريدج في قاعة إحدى الكليات ذهبت لأرى هذا الرجل الذي كان منذ شهور قليلة يعانق الموت في عيون الأطفال. كانت صورته في ذهني منحصرة في بدلة المهنة الزرقاء التي اشتهر بها.

العودة؛ الفكرة التي تنغرس في كل أهل الشتات، تعددت أسماء أجيالهم بأسماء مآسيهم نكبة ونكسة، والغريب أن أول من غرس في وعيي بشكل واضح فكرة العودة كان أيضا من عائلة أبو ستة.

 

حين وصلت، رأيت رجلا يعرف كيف يقف أمام نخبة المجتمع الغربي وبأي لغة يخاطبهم. كان رابط الجأش طيلة وقته، لحظات يسيرة ترى فيها وجع التجربة وجلل الحدث في احمرار عينيه.

تحدث عن ألوان الموت الذي أمطرت فيه إسرائيل كل شيء حي في غزة، عن حروق الفسفور الأبيض التي لا يخطئها، وكيف تنخر حتى العظم وتشتعل كلما تعرضت للأكسجين، عن مواد التعقيم التي نفدت من الأسبوع الأول للحرب بسبب الأعداد الهائلة للمصابين والجرحى، وشرائه جميع الخل المتبقي في أحد المتاجر ليخلطه مع سائل غسيل الأطباق وينظف به بتر أحد المصابين من غير تخدير. وقفت بجوار امرأة إنجليزية رأيتها مرارا الاحتجاجات من أجل وقف الحرب، نظرت إلى الدكتور منبهرة بشجاعته وتعجبت كيف يقدم على ما أقدم عليه وهو زوج وأب، ترى ماذا ستفعل لو علمت أنه مستعد للعودة مجددا إذا احتيج إليه.

نعم، العودة؛ الفكرة التي تنغرس في كل أهل الشتات، تعددت أسماء أجيالهم بأسماء مآسيهم نكبة ونكسة، والغريب أن أول من غرس في وعيي بشكل واضح فكرة العودة كان أيضا من عائلة أبو ستة.

رسم سلمان أبو ستة، عم غسان، خارطة رحلة العودة بالفعل، عودة ممكنة ضمن حسابات الجغرافيا والديموغرافيا. فكك هذا الحق من جموده في أوراق القانون الدولي وترجم قدسيته في وجدان شتات الشعب الفلسطيني إلى مادة مرئية.

لو حيدنا التواطؤ الدولي والإرهاب الصهيوني، فنحن لسنا أمام مشكلة جغرافية تقف عائقا أمام عودة جموع اللاجئين، لا نقول إلى وطنهم فحسب، بل إلى قراهم وأراضيهم على وجه التحديد.

وشهد عراب حق العودة النكبة، وطرد من بئر السبع حين كان طفلا يدرك الحدث لكنه لا يجاوزه. شرع في توثيق جغرافيا فلسطين، من البلد التي سلمتها لعدوه بادئ الأمر، من بريطانيا التي أنكرت مسقط رأسه وكتبته في بطاقة إقامته لديها أنه بلا دولة. تنقل بين أرشيف سلاح الجو الملكي البريطاني والمكتبة البريطانية، وعشرين مبنى آخر. واستطاع أن يحول لعنة الانتداب البريطاني إلى منحة واحتال حتى تحصل على الأرشيف كاملا؛ خمسة آلاف صورة جوية.

هذه الرحلة الشاقة تبلورت بإصدار أربعة أطالس تفصيلية، وثق فيها أسماء القرى والمدن والمعالم وملكية الأراضي. بدأ من العام 1871 حين لم يكن هناك وجود لمستعمرة يهودية واحدة، وبعد عقود جاب فيها البلاد بحثا عن كل ما له علاقة بفلسطين قبل وأثناء وبعد النكبة. وصل للنتيجة التي لا يحب عدوه سماعها، بأن أكثر من 89% من يهود إسرائيل يشغلون 12% فقط من مساحة فلسطين، ومئات القرى لا تزال خالية من السكان.

ولو حيدنا التواطؤ الدولي والإرهاب الصهيوني، فنحن لسنا أمام مشكلة جغرافية تقف عائقا أمام عودة جموع اللاجئين، لا نقول إلى وطنهم فحسب، بل إلى قراهم وأراضيهم على وجه التحديد.

لم تنته رحلة عائلة أبو ستة وغيرهم من عائلات فلسطين في الداخل والشتات، كانت جذورهم المتشبثة بالأرض والأصل هي منطلق العمل في الحاضر، وتعبيد طريق التحرير في المستقبل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.