شعار قسم مدونات

هل انفرط العقد الاجتماعي في إسرائيل؟

متظاهرون في تل أبيب يطالبون بالإفراج عن المحتجزين في غزة (رويترز)

في مطلع سنة 2023، شهدت إسرائيل أزمة ما عرف بالتعديلات القضائية؛ حيث كان هناك مظاهرات واحتجاجات، وشارك فيها بعض أعضاء مجلس الحرب الحالي، إضافة لأحزاب وتكتلات سياسية ونقابية.

التعديلات عموما هدفت إلى الحد من سلطة المحكمة العليا، والحد من سلطة القضاء على الحكومة، وتحت ضغط أميركي وداخلي قام بنيامين نتنياهو بتأجيل إقرار قانون التعديلات القضائية.

واحة الديموقراطية

كان هذا من المؤشرات على أن إسرائيل تغادر مربع ما عرفت به نفسها بزهو، واعتبرها الغرب كذلك فعلا، وهي أنها (واحة الديموقراطية) في وسط صحراء الدكتاتورية في الشرق الأوسط.

ولا شك أن إسرائيل مقارنة مع محيطها العربي، وفيما يتعلق بإدارة شأنها الداخلي، لا ما يخص الشعب الفلسطيني بطبيعة الحال، كانت نموذجا ديموقراطيا لا نظير له في المنطقة؛ فهي تشهد انتخابات برلمانية حرة عموما، وحكوماتها تتكون عادة من ائتلافات ضامنة للتوازن السياسي.

في إسرائيل جهاز قضائي يحاسب المسؤولين والوزراء، ويحق للشرطة استجواب رئيس الوزراء شخصيا بتهمة الفساد، لساعات طويلة، دون خوف من انتقام أو (اغتيال غامض).

ويسمح للإسرائيلي العادي أو من النخبة بانتقاد حكومته ورئيسها ووزرائها بأشد الألفاظ والعبارات، دون خوف من (اختفاء قسري) أو سجن بتهمة (قدح مقامات عليا) أو الفصل من الوظيفة أو الحرمان من الترقية.

وعند كل حدث كبير؛ خاصة إذا ما تخلله إخفاق تشكل في إسرائيل لجان تحقيق تتمتع بالحرية والصراحة، وتقدم توصيات صارمة، بعكس الحالة المقابلة حيث يقال: إذا أردت دفن قضية فشكل لها لجنة تحقيق، وفي إسرائيل لجنة التحقيق هي لنشر التفصيلات والمحاسبة والثواب والعقاب، لا الدفن والطمس وذر الرماد في عيون الجمهور.

كما أن في إسرائيل جهاز قضائي يحاسب المسؤولين والوزراء، ويحق للشرطة استجواب رئيس الوزراء شخصيا بتهمة الفساد، لساعات طويلة، دون خوف من انتقام أو (اغتيال غامض)، وقد يحاكم ويدان ثم يسجن رئيس الوزراء أو الوزير أو رئيس الدولة بتهمة فساد مالي أو أخلاقي (أولمرت وكتساف ودرعي مثلا) وهو أمر يشبه الحلم المستحيل عربيا.

 

نظرتنا إلى النموذج الإسرائيلي  

أبناء جيلي يتذكرون معلم المدرسة وخطيب المسجد والكاتب الصحفي وهم يتحدثون عن ضرورة تعلمنا من عدونا، وذلك بأن نتأمل المشهد في جلسات(الكنيست) حيث يتلاسن النواب ويتصايحون، ولكنهم يتفقون على مصلحة كيانهم، ولا يرفعون على بعضهم السلاح.

وكان الإعلام الإسرائيلي متابعا بنسبة كبيرة جدا فلسطينيا، بحكم الواقع التقني، ولا شك أن القسم العربي في التلفزة والإذاعة الإسرائيلي الخاضع لتوجيهات وخطط المخابرات الإسرائيلية، كان معنيا بأن يرينا (وجه إسرائيل الديموقراطي ومساحة الحرية فيها) كي يثير فينا الإعجاب واليأس من مقاومتها، بعد خلق مقارنة تلقائية، ولم يهدف من عرض (طوشات الكنيست) على الشاشة أن نتعلم كيفية إدارة علاقاتنا الداخلية بالتأكيد. على كل حال هناك تفسير لهذه الوضع في إسرائيل كتبت عنه أواخر العام 2016 ومن شاء يمكنه الاطلاع على نص المقال.

العناية والاهتمام بالفرد  

أما فيما يتعلق بما يخص الفرد الإسرائيلي ضمن الصراع مع الأعداء الفلسطينيين والعرب؛ فقد حرصت إسرائيل على إعلاء قيمة الفرد، باعتباره كائنا مفضلا عن نظيره الفلسطيني والعربي.

ومن تجليات هذا التفضيل العملية، صفقات تبادل الأسرى بين فصائل المقاومة الفلسطينية واللبنانية وإسرائيل؛ حيث مقابل أسير أو عدد قليل من الأسرى الإسرائيليين، وأحيانا مقابل جثث، تقوم إسرائيل بإطلاق سراح أسرى فلسطينيين وعرب، كان كثير منهم قد حكم عليهم بأحكام بالسجن المؤبد، وأكد لهم المحققون والقضاة والسجانون مرارا أنهم لن يخرجوا إلا إلى المقابر. ولكن الصفقات تخرجهم إلى بيوتهم وأهلهم رافعين شارات النصر، مقابل أسير أو حتى جثث لأسرى إسرائيليين.

وضمن احتفالية بإحدى صفقات التبادل أشار الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله إلى هذه المسألة باعتبارها من (مزايا العدو) والتي يفتقدها العرب؛ وكلام نصر الله ينسحب على الخاصة والعامة عند النظر إلى هذا الملف، حيث دوما يتم الحديث بنوع من الإعجاب الممزوج بالتأسف على حالة العرب.

فإسرائيل أشغلت العالم بمساعد الطيار (رون أراد) ثم أشغلت العالم بالجندي (جلعاد شاليط) ولم يكن ثمة مسؤول إسرائيلي يلتقي مسؤولا من أي مستوى لأي دولة عظمى أو كبرى أو دون ذلك إلا ويطرح أمامه قضية شاليط، بل أحيانا يقوم بترتيب لقاء لعائلته مع مسؤولين من دول مختلفة، أو منظمات دولية أو شخصيات عالمية اعتبارية.

وكي لا نخرج من قضية شاليط، فقد أطلق سراحه ضمن صفقة تبادل (وفاء الأحرار) مقابل الإفراج عن 1027 أسيرا فلسطينيا وعربيا، منهم مئات محكوم عليهم بالسجن المؤبد مرة فأكثر، ومن بينهم 27 أسيرة بعضهن أيضا كن يقضين أحكاما عالية.

إسرائيل مجتمع مهاجرين، والفرد فيه يجب أن يشعر أن دولته ستوفر له الحماية وستعيده إذا ما وقع في الأسر، لأن الروابط الطبيعية داخل المجتمع الإسرائيلي غير موجودة، وبالتالي على الدولة أن تشعر الفرد أنها الأم الرؤوم فعلا وقولا.

انهيار النموذج وضربة للعقد الاجتماعي

جاءت عملية طوفان الأقصى، والحرب المستمرة التي تلتها على قطاع غزة، كي تضرب العقد الاجتماعي في إسرائيل في مقتل، وتوجه ضربة للنموذج الذي تحدثت عنه في السطور السابقة.

فإسرائيل مجتمع مهاجرين، والفرد فيه يجب أن يشعر أن دولته ستوفر له الحماية وستعيده إذا ما وقع في الأسر، لأن الروابط الطبيعية داخل المجتمع الإسرائيلي غير موجودة، وبالتالي على الدولة أن تشعر الفرد أنها الأم الرؤوم فعلا وقولا، وهو ما يفسر ما تعتبره المؤسسة الإسرائيلية (ثمنا باهظا مؤلما) لاستعادة أسراها مثلا.

ودعونا نتحدث بنقاط عامة واضحة في هذا السياق: –

١- تحولت أجهزة الإعلام الإسرائيلية إلى بيدق بيد أجهزة الأمن والجيش، وصار الصحافيون فيها أبواق للدعاية التي يريد الجيش أو المخابرات بثها، أي انهار نموذج الديموقراطية وحرية الإعلام الذي تفاخروا به.

٢- إبرام صفقة تطلق فيها حركة حماس وغيرها من فصائل المقاومة جميع الأسرى الإسرائيليين، مقابل تبييض السجون الإسرائيلية من جميع الأسرى الفلسطينيين والعرب، ليس خسارة كبيرة لإسرائيل إذا ما قارنا العدد والنوعية، بما كان مع صفقة شاليط في 2011 ولكن إسرائيل تتجاهل أسراها بل قام جيشها بقتل العديد منهم عمدا عبر عمليات القصف أو إطلاق النار، مما يوجه رسالة ضمنية للفرد الإسرائيلي.
٣- هناك تجاهل وقمع لعائلات الأسرى والمتضامنين معهم، ورفض ومماطلة من قيادات المستوى السياسي الإسرائيلي لمقابلتهم، بل هناك تحريض ضدهم باعتبارهم(خونة)، ولنقارن هذا مع ما كان مع الحالات الأخرى في السنوات السابقة.

كل هذا وغيره أكثر يشير إلى أننا أمام (إسرائيل) مختلفة عن (النموذج) الذي عرفنا، وبالتالي هي ليست مكانا مغريا جاذبا لأي عاقل يفكر منطقيا، فهي لم تعد تكترث بعدد قتلاها ولا مصير أسراها.

قد يقال: حالة عابرة، وستعود إسرائيل إلى ما كانت. فأقول: كلا، التغير والتحول جذري وفي العمق، وصميم الدولة والمجتمع، وستذكرون ما أقول لكم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.