شعار قسم مدونات

جدل العلمانية.. زكي نجيب محمود ومراجعة مقدّرة (1)

blogs العلمانية
ذهبت عن الناس غفلة استبدت بهم حينا طويلا من الدهر في بلادنا وفي بلاد الغرب كذلك حين لعب الشيطان بعقولهم فأوهمهم أن لا مصالحة بين علم ودين (مواقع التواصل الاجتماعي)

لا يكاد الجدل يتوقف بين الباحثين وجمهرة المثقفين -ودعاة العلمانية منهم بالخصوص- حول مصطلح العلمانية، من حيث فتح العين وكسرها، لما لذلك من دلالات في الاستعمال، وانعكاس مباشر على الفكر والسلوك، وقد أخذت هذه المسألة الكثير من النقاشات والمساجلات، واستنزفت وقتا غير قصير، بين الطرفين.

وعلى الرغم من كل ذلك الجدل فإن التحقيق في المسألة يفضي إلى أنها بفتح العين، إذ هي مأخوذة من العالم لا من العلم، وهو قول يشترك فيه كثير من الباحثين العلمانيين والإسلاميين (راجع -على سبيل المثال-: زكي نجيب محمود، عين -فتحة- عا، صحيفة الأهرام، 17/12/1984م، ص 13، وكتاب عن الحرية أتحدث، ص 133، وفؤاد زكريا: العلمانية ضرورة حضارية ص 270، وعبد الوهاب المسيري، العلمانية الجزئية او العلمانية الشاملة، ج1، ص61-62، وغيره.

المسألة في نهاية المطاف تنبني على المقصود بها، من قبل كل طرف، بمعزل عن الكسر والفتح، وحيث إن تاريخ المسلمين الحضاري، قد أفاد من الآخر اليوناني في زمنهم، ممثلاً في التراث الفلسفي اليوناني؛ فلا يضير اليوم أن يفيد المسلمون من تراث الآخر الأوروبي، في جانب العلم الذي أضحى متميزا فيه

والواقع أن ليس "معجم المصطلحات السياسية العلمانية" وحده من يقرر بأن العلمانية هي اللادينية، أو الدنيوية، وهي دعوة إلى إقامة الحياة على غير دين، وتعني في جانبها السياسي بالذات إقامة اللادينية في الحكم، وهي اصطلاح لا علاقة له بالعلم أو بالمذهب العلمي (وضاح زيتون، معجم المصطلحات السياسية، ص 254)، بل ذلك ما تبنته عدد من القواميس والمعاجم ذات القيمة والوزن، كما هو اتجاه كثير من الباحثين العلمانيين غربيين وشرقيين، غير أن ما يعنينا في هذه المناقشة القصيرة ؛ إنما هو التوقف عند رأي أحد أبرز فلاسفة العصر، في هذه المسألة، وهو الدكتور زكي نجيب محمود (ت: 1993م)، لما فيه من المفارقة، غير المتوقعة، من رجل عرف لفترة طويلة من حياته، بغرامه المفرط بالغرب، وثقافته وقيمه، وفلسفته الوضعية المنطقية بالخصوص، حتى عرف يوما برائد الوضعية المنطقية، في العالم العربي، حيث يذهب الرجل إلى أن من الخطأ غير المبرر الإصرار من قبل بعض الباحثين على كسر حرف العين، لمفردة العلمانية، كما لو كانت مأخوذة من العلم، لا من العالم، وأن الإسلام يقف في مواجهة مع العلم، لكنه عاد فأكد أن المسألة في نهاية المطاف تنبني على المقصود بها، من قبل كل طرف، بمعزل عن الكسر والفتح، وحيث إن تاريخ المسلمين الحضاري، قد أفاد من الآخر اليوناني في زمنهم، ممثلاً في التراث الفلسفي اليوناني؛ فلا يضير اليوم أن يفيد المسلمون من تراث الآخر الأوروبي، في جانب العلم الذي أضحى متميزا فيه، ثم قال:" وإذن يكون انتهاجنا نهج أسلافنا هو أن نلتمس صيغة ثقافية جديدة، نجمع فيها رحيقا إلى رحيق في إناء واحد. فإذا كان هذا الجمع بين الرحيقين هو نفسه ما يطلقون عليه اسم "العلمانية" بعين مفتوحة، فأهلا بها، وإذا كان هو ما يسمونه بهذا الاسم بعين مكسورة، فمرحبا بها، إن الأسماء لا تسكنها العفاريت فأخشاها، إنني أخشى أو لا أخشى ذلك الذي تسميه تلك الأسماء، إذا وجدت في المسمى ما أخشاه، فهل أخشى أن يكون هذا العالم الجديد موضوعا لاهتمامي، في علومه وفي آدابه وفي فنونه، وفي كثير من نظمه. إن حياة الحي هي أن يتفاعل مع ما يحيط به، أخذا وعطاء، فما الذي يخيفني من العلمانية، فتحت عينها أو كسرت، إنه بفتحها تكون دعوة إلى الاهتمام بعالمنا الذي نعيش فيه، وبكسرها تكون دعوة إلى العلم، وكلتا الدعوتين معلنتان في عقيدة الإسلام وشريعته" (محمود، عين- فتحة- عا، ص13، وعن الحرية أتحدث، ص 135).

إن مضمون هذا التقرير لزكي محمود؛ يتنافى مع ما استقر في وعي كل من يعرف الفلسفة الوضعية المنطقية، ودلاتها، ونقاش حلقة فينا وفلاسفتها، حيث الاهتمام باللغة وتحليلاتها المنطقية، للتخلص من كل ما يشوبها من تعبيرات غامضة، أو زائفة، ليتمّ البناء على التجربة الحسّية وحدها، حتى إن البعض ليسميها بالوضعية التجريبية، بوصف التجربة الحسية مصدر المعرفة الوحيد والحصري، بعيدا عن مصادر الدين والإيمان والغيب (الميتافيزيقا) وطرائقها، حيث إن كل مالا يخضع للتحقق من صحته، عبر الفحص التجريبي الحسي، يعد لغوا بلا معنى، وليس من العلم في شيء، لدى هذه الفلسفة. وهل هذا ينسجم عمليا في شيء، مع تقرير الدكتور محمود آنف الذكر؟ اللهم لا.

هنا ينعي محمود على من يحارب العلم باسم الدين، في صورة العلمانية (مكسورة العين) بقوله:" ومرة ثانية أقول: إنني لا أبالي أن يكون في صدور الدعاة إلى العلمانية بكسر عينها، شر مكتوم يريدون به حياتنا الدينية، على افتراض جاهل منهم بأنه إذا كان علم فلا دين.

أما الجانب الأكثر إثارة في موقف الدكتور زكي نجيب محمود من مصطلح العلمانية، بل الصادم -ربما لكثير ممن يعتقد بحتمية الحل العلماني وضرورته-؛ تشديد الرجل على ضرورة الإيمان بالتناغم في الإسلام، بين العلم والإيمان، والدين والدنيا، ذلك أننا في المجتمعات الإسلامية غير معنيين بركام الجدل والصراع الذي دار في أوروبا حول العلمانية من الأساس، لأن فلسفتنا الفكرية نابعة من الدّين، الذي يهتم بالعلم، ولا يفرط بالعالَم أو الدنيا، في الوقت ذاته، كما هو معلوم من فكره بالضرورة (محمود، عين- فتحة- عا، ص13، وعن الحرية أتحدث، ص 135).

وهنا ينعي محمود على من يحارب العلم باسم الدين، في صورة العلمانية (مكسورة العين) بقوله:" ومرة ثانية أقول: إنني لا أبالي أن يكون في صدور الدعاة إلى العلمانية بكسر عينها، شر مكتوم يريدون به حياتنا الدينية، على افتراض جاهل منهم بأنه إذا كان علم فلا دين. فقد ذهبت عن الناس غفلة استبدت بهم حينا طويلا من الدهر في بلادنا وفي بلاد الغرب كذلك، حين لعب الشيطان بعقولهم فأوهمهم أن لا مصالحة بين علم ودين، فإذا قام أحدهما غاب الآخر، ذهبت عن الناس هذه الغفوة، لأن الإنسان إنسان بدينه وبعلمه معا، وارجع إلى كتاب الله الكريم وإلى حديث رسوله -عليه أفضل الصلاة والسلام- وانظر في كم موضع يأتي الحض على العلم، بل إننا لنعرف ذلك جيدًا، ونعيده ونكرره فيما نكتبه وما نذيعه في الناس، فقل لي بالله: من ذا الذي يحاربونه، أولئك الذين يحاربون العلمانية وهي مكسورة العين؟"( راجع: محمود، عين- فتحة- عا، ص13، وعن الحرية أتحدث، ص 136).

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.