شعار قسم مدونات

عبده شريف: عاش مظلوما.. ومات شامخا!

المطرب المغربي عبده شريف من حسابه على إنستغرام
المطرب المغربي عبده شريف من حسابه على إنستغرام (مواقع التواصل الاجتماعي)

في التاريخ العربي الحديث وحدهم رجال السياسة والمقربون من السلطة هم من يختارون المنفى الاختياري خوفا على سلامتهم الجسدية أو تعبيرا عن موقف سياسي، ووحده المطرب عبده شريف من سلك هذا الاختيار في المجال الفني، فانعزل في ضاحية في مدينة تولوز الفرنسية، وانطوى على نفسه واحتفظ لنفسه بدوافع هذا المنفى الاختياري، التي كان يتقاسمها مع أصدقائه المقربين فقط.

وسيم، حضور قوي، صوت جبار، إحساس مرفه، حريص على احترام جمهوره، زاهد في دنيا فانية، اجتمعت فيه خصال الفنان الحقيقية.

قبل أكثر من ربع قرن، أتذكر أن في ذلك المساء الدافئ من شهر مايو 1999، كانت الحركة غير عادية بدربنا، الوالدة أطال الله في عمرها، وبعض جاراتها كن على موعد ببيتنا بمدينة خريبكة لمشاهدة بث القناة الثانية المغربية لسهرة يشارك فيها "العندليب الجديد"، احتضنتها دار الأوبرا المصرية بمناسبة مرور 70 عاما على ميلاد عبد الحليم حافظ.

تعرفنا تلك الليلة على عبد الحليم الجديد وهو يؤدي "جبار" على خشبة واحدة من أعظم خشبات دور الأوبرا بالعالم، وأمام جمهور عاشق للعندليب الأسمر يفهم النوتات الموسيقية ويفرق بين الأداء والتمكن والاتقان، فأتقن عبده شريف حفله وأبدع وأحيا أغاني عبد الحليم حافظ برقي وبكرم منقطع النظير في الإحساس.

وبدون سابق إنذار، يقول الزملاء في "الأهرام"، "فوجئ التليفزيون المصري بمطالبات جماهيرية كبيرة تطالبه بإعادة إذاعة الحفل مرة ثانية، الأمر الذي لم يكن معتادا، وحينما تحققت الإعادة انتظر الجمهور العربي صعودا صاروخيا لعندليب جديد، تبنته الاوبرا وقتها".

دشن عبده شريف، تلك الليلة على خشبة دار الأوبرا، دخوله الرسمي إلى قلوب محبيه بالعالم العربي وقدم أوراق اعتماده بشكل رسمي سفيرا فوق العادة للفن الراقي العربي، فتعرف المغاربة على ابنهم، "عندليب المغرب".

وسيم، حضور قوي، صوت جبار، إحساس مرفه، حريص على احترام جمهوره، زاهد في دنيا فانية، اجتمعت فيه خصال الفنان الحقيقية.

عبده لم يقبل يوما أنصاف الحلول، لأنه آمن أن اللون الذي يؤديه يحتاج لعدد كبير من الموسيقيين على شاكلة الأوركسترا الفيلارمونيكية، لأن جمهوره يعرفه في هذا اللون وهو يتقنه

احتضنته مصر العظيمة كما احتضنت ابنة بلده، سميرة سعيد، ووردة الجزائرية وذكرى التونسية، فشرب من نيلها وعاشر أهلها وأطلق عليه لقب "ابن النيل".

عاد " العندليب الجديد" إلى خشبة دار الأوبرا المصرية سنة 2003 من بابها الواسع مرة ثانية بمناسبة عيد شم النسيم، بحيث قدم ثلاث حفلات بشبابيك مغلقة، ليصبح "أول مطرب عربي يقيم ثلاث حفلات كاملة العدد في المسرح الكبير بدار الأوبرا خلال شهر واحد، كما أعلن مصدر في الأوبرا"، تقول قصاصة لوكالة الأنباء الفرنسية، وتضيف" قال المسؤول الإعلامي لدار الأوبرا محمد حسني "لقد بيعت تذاكر الحفلة التي أقامتها الأوبرا أمس بمناسبة عيد شم النسيم خلال ساعة ونصف من فتح شباك التذاكر".

وأكد أن "الحفلات الثلاث كانت كاملة العدد بصورة لم يسبق أن شهدتها دار الأوبرا مع مطرب عربي". فماذا حدث حتى اختار عبده شريف المنفى الاختياري وهاجر وطنه الأم، المغرب، وأخذ مسافة مع مصر، وطنه الفني الذي قدمه للجمهور؟

في جلسات عديدة امتدت لسنوات جمعت بيننا برفقة أخيه الروحي ورفيق دربه، الأستاذ الملحن والمطرب، كريم تدلاوي، وهو الذي كان له الفضل في أن أتعرف على عبده شريف قبل حوالي 15 سنة. في هذه الجلسات، التي كان يحضرها أيضا صديقنا، نبيل جباري، واحد من مهنيي الصناعة الفنية في المغرب، كنا نناقش كثيرا غيابه عن الساحة الفنية، فكان جوابه دائما أن اللون الذي يقدمه لا يقبل التجزيء، فإما أن يتم تنزيل "مفهوم حفله" كما هو، كما شاهده العالم العربي على خشبة دار الأوبرا يا إما "بلاش". عبده لم يقبل يوما أنصاف الحلول، لأنه آمن أن اللون الذي يؤديه يحتاج لعدد كبير من الموسيقيين على شاكلة الأوركسترا الفيلارمونيكية، لأن جمهوره يعرفه في هذا اللون وهو يتقنه، ولنقل بأنه في بلدنا، المغرب، لا يوجد مثيل لعبده شريف في هذا "الكونسيبت" ولا أتذكر أن أحدهم قدمه إلى المغاربة.

هل قدمت الجهات الوصية على الفن بالمغرب الدعم اللازم لأيقونة مثل عبده شريف؟ الجواب لخصه الشاعر محمد البتولي حينما قال وهو ينعى عبده شريف:" عبده لم يفرح بفنه، فإنه عاش مظلوما ومات مظلوما"

لذلك فعبده شريف كان يتألم في صمت، وفي عزلة اختارها مجبرا، وناضل من أجل فكرته ومن أجل أن يلتقي جمهوره ببذل بسموكينغ وبأكثر من 70 عازفا وطقوس أخرى خاصة به، وبمنتوجه الفني الذي يشهد العالم أنه تفرد به وأتقنه.

وحتى عندما غنى لوطنه رائعة "أرض البركة"، من شعر الأستاذ محمد البتولي، ولحن الأستاذ كريم تدلاوي، فقد أداها بشكل راق مرفقا بفريق كبير من العازفين، توسم من خلالها، إلى جانب الأستاذ البتولي والأستاذ تدلاوي، بوسام ملكي.

لكن هل قدمت الجهات الوصية على الفن بالمغرب الدعم اللازم لأيقونة مثل عبده شريف؟ الجواب لخصه الشاعر محمد البتولي حينما قال وهو ينعى عبده شريف:" عبده لم يفرح بفنه، فإنه عاش مظلوما ومات مظلوما"، وأنا أعتقد أن عبده عاش مظلوما ومات شامخا، كيف لا وهو وافته المنية يوم إحياءه لسهرته، كانت أيضا، بشبابيك مقفلة، وكأنه يقول لنا: "آمنتُ بفكرتي وبقيت وفيا لها ومت من أجلها". فالراحل تم نقله من التمارين على الحفل إلى مصحة خاصة حيث فاضت روح شريف يوم الجمعة الماضي 27 شعبان ليترك أثرا طيبا لدى محبيه وعشاقه بمختلف بلدان العالم العربي. نسأل الله أن يعوضه خيرا في الجنة وإنا لله وإنا إليه راجعون.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.