شعار قسم مدونات

الحرب على غزة: الإلمام بالموضوع والإنصاف يا أستاذتي العزيزة!

منزل الدكتور حسن النبيه والذي دمرته طائرة حربية إسرائيلية في الحرب على غزة 2023 (الجزيرة)

حظيت بالعيش قرابة الستة أعوام في بريطانيا والولايات المتحدة وكندا، وكانت زياراتي لتلك الدول الغربية لأغراض أكاديمية بالدرجة الأولى، لكن أُتيحت لي فرص قوية للتواصل بشكل يومي مع أناس غربيين (في الجامعة والسوق والحافلة، إلخ). ولقد لاحظت أن الكثير من الغربيين لديهم صورة مشوهة وآراء خاطئة عن الفلسطينيين، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى آلة الدعاية الإسرائيلية-اليهودية. ومع ذلك، فقد لاحظت أيضا أن الغربيين بشكل عام منفتحون وعلى استعداد للاستماع والوصول إلى الحقيقة. وفي هذا الصدد، أود مشاركة تجربتي الشخصية مع أستاذة من أساتذتي الجامعيين الأمريكيين. كان ذلك في عام 2009 أثناء دراستي ببرنامج الدكتوراه في بوسطن بالولايات المتحدة الأميركية.

عرضت على الأستاذة صورة لوالدتي، وأخبرتها أنه في عام 1948 كانت تبلغ من العمر تسع سنوات فقط عندما هاجمت القوات الإسرائيلية قريتهم بوحشية، ولاذت مع عائلتها بحياتهم فارين إلى غزة.

طيلة فترة المساق الخاص بهذه الأستاذة، توجب علينا، نحن الطلبة، أن نلتقي بها فرادى في مكتبها لمناقشة تطور مشاريعنا المقررة للمساق. وفي زيارتي الأولى، تحدثت عن تجربتي كمعلم فلسطيني للغة الإنجليزية لأكثر من عشرين عاما في غزة. وتطرقت الأستاذة إلى فلسفتها في التعليم، والتي كانت معلقة خلف باب مكتبها، وتضمنت تسع بنود: الإلمام بالموضوع، وإعداد المقرر الدراسي وتنظيمه، والوضوح وسهولة الفهم، والحماس للتدريس، والاهتمام بتقدم مستوى الطلبة، والتواجد لمساعدة الطلبة، وجودة الاختبارات، والحيادية في التقييم، وإنصاف الطلبة. أبديت لأستاذتي عظيم تقديري لهذه الفلسفة، وأشرت إلى أهمية وجود بعض الترفيه في الصف، لأنني أؤمن بالتعليم الترفيهي؛ وبابتسامة عريضة علت وجهها، نهضت الأستاذة على الفور وكتبت بندا إضافيا في أعلى قائمة فلسفة التعليم مضيفة اسمي بجانب هذا البند – الترفيه (حسن).

بعد أسبوع وعند زيارتي الثانية لمكتب الأستاذة، استرعى انتباهي منشور معلق على الباب بعنوان "ماذا لو كانت حماس بجواركم؟" وتبع ذلك فقرتان تتعلقان بالحرب الإسرائيلية على قطاع غزة والتي انتهت قبل بضعة أسابيع (يناير 2009). ولقد صدمت بما احتواه المنشور من أكاذيب. وزادت صدمتي عندما دخلت المكتب ووجدت نسخة أخرى لنفس المنشور معلقة على أحد الجدران. حييت الأستاذة وسألتها عن سبب وجود المنشور داخل مكتبها وخارجه، فأجابت: "أود أن أحقق التوازن لما أشعر أنه عرض أحادي الجانب للصراع الإسرائيلي-الفلسطيني."

قمت بتشغيل جهاز الكمبيوتر المحمول الخاص بي وعرضت عليها مقطع فيديو من دقيقتين بعنوان "وراء الكواليس – المنطقة المغلقة"، وهو مقطع من إنتاج مؤسسة جيشا، وهي مؤسسة إسرائيلية (وليست فلسطينية). ويتعلق المقطع بالحصار الصارم واللاإنساني على غزة. بعد ذلك، تحدثت للأستاذة عن معاناتي الشديدة خلال تلك الحرب (2008-2009)، حيث كنت بعيدا عن أسرتي في غزة، وكانت الأخبار المروعة عن الضحايا والدمار هناك لا تفارق كوابيسي. كما عرضت على الأستاذة صورة لوالدتي، وأخبرتها أنه في عام 1948 كانت تبلغ من العمر تسع سنوات فقط عندما هاجمت القوات الإسرائيلية قريتهم بوحشية، ولاذت مع عائلتها بحياتهم فارين إلى غزة.

يتطلع الفلسطينيون إلى ما هو أكبر من مجرد وقف إطلاق النار، إنهم يتطلعون إلى الاستقلال والعيش في سلام وكرامة.

وفي المساء، كتبت الرسالة التالية وأرسلتها إلى أستاذتي عبر البريد الإلكتروني..


أستاذتي العزيزة:

أتمنى أن يكون لديك الوقت والصبر لقراءة رسالتي، بالرجوع إلى المنشور الملصق على باب مكتبك، أعتقد أنك تناقضين بعض البنود المذكورة في قائمة فلسفتك الرائعة في التعليم، وأود مناقشة اثنين منها: الإلمام بالموضوع و’الإنصاف’.

بالتمعن، وجدت أن الفقرة الأولى في المنشور تبدأ بأكذوبة: "انسحبت إسرائيل من غزة عام 2005." فمقطع الفيديو (المنطقة المغلقة)، والذي شاهدناه معا في مكتبك، يدحض ذلك. فبينما لا توجد قوات عسكرية إسرائيلية في غزة، لا تزال إسرائيل تسيطر على كل شيء (الحدود، البحر، الجو، إلخ).

يستورد الفلسطينيون في غزة ما يحتاجونه إما من أو عن طريق إسرائيل، وبسبب الحصار القاسي وغير القانوني، يجد الفلسطينيون صعوبة بالغة في الحصول على أبسط احتياجاتهم (مثل الغذاء والكهرباء والوقود والاتصالات والأدوية وحرية الحركة). لقد توفي مئات المرضى الفلسطينيين بسبب حرمانهم من حق السفر لتلقي العلاج، ولم يتمكن آلاف آخرون من متابعة تعليمهم في الخارج لنفس السبب.

قد لا تصدقين أن حياة أهل غزة في ظل الاحتلال قبل عام 2005 كانت أفضل بكثير مما هي عليه الآن. وهذا لا يعني أن الفلسطينيين يرغبون في أن يعاد احتلالهم (رغم أن الاحتلال لا يزال قائما). ويبدو أن ‘انسحاب’ إسرائيل من غزة في 2005 كان بهدف إعفائها من مسؤوليات الاحتلال تجاه الشعب المحتل.

تقول الفقرة الثانية من المنشور: "الآن، حتى بعد وقف إطلاق النار.." وهذا أيضا غير صحيح. فهو يعني أن إسرائيل وافقت على وقف إطلاق النار، لكن الأمر ليس كذلك. فحتى الآن، فشلت المفاوضات بهذا الشأن بسبب إصرار الحكومة الإسرائيلية على إطلاق سراح جنديها ‘شاليط’ الأسير في غزة. وبالمناسبة، هناك نحو تسعة آلاف أسير فلسطيني في إسرائيل؛ وقد أمضى الكثير منهم ما يزيد عن 15 عاما في السجن.

في الواقع، يتطلع الفلسطينيون إلى ما هو أكبر من مجرد وقف إطلاق النار- إنهم يتطلعون إلى الاستقلال والعيش في سلام وكرامة. يشار إلى أنه وبموجب اتفاقية أوسلو لعام 1993، اعترفت منظمة التحرير الفلسطينية بسخاء بالسيادة الإسرائيلية على 78% من فلسطين التاريخية. إلا أن رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين والذي وقع اتفاق أوسلو مع الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات قد اغتيل على يد إسرائيلي متعصب في عام 1995. كما أن عرفات نفسه حوصر من قبل إسرائيل في رام الله (الضفة الغربية) حتى وفاته.

إن الإجراءات الإسرائيلية على الأرض (في قطاع غزة وكذلك في الضفة الغربية) تشير إلى فشل اتفاقية أوسلو (مثل المستوطنات والجدار الفاصل والعقاب الجماعي). ويلخص دوف فيسغلاس، المستشار السياسي لرئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق أرييل شارون، السياسة الإسرائيلية بما يلي: "قمنا بإدارة الأمور بطريقة نجحنا من خلالها في إخراج العملية السياسية من جدول الأعمال، وعملنا على إفهام العالم بأنه لا يوجد من نتحدث معه، وحصلنا على شهادة ‘لا يوجد من نتحدث معه’.

لا شك بأن الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي معقد جدا؛ ومع ذلك، فإنني أؤمن بإمكانية تحقيق حل عادل إذا بذل المجتمع الدولي جهودا معقولة من أجل وضع حد لمعاناة الفلسطينيين على مدار العقود السبعة الماضية.

أستاذتي العزيزة:

يعجبني ما ينشره أساتذة الجامعات على أبواب مكاتبهم؛ فهم يختارون ذلك بعناية، وإنني أعتبر ذلك وسيلة مفيدة لتثقيف الآخرين. يقوم الكثير من الطلبة والأساتذة بزيارتك في مكتبك، وبالطبع يقرأون ما تنشرينه على باب المكتب. لقد كانت فلسفتك التعليمية المتمثلة في ‘الإلمام بالموضوع’ واضحة في المقالات المنتقاة بعناية والمرفوعة على صفحة المساق بموقع الجامعة وفي مناقشتك لموضوعات هذه المقالات في محاضراتك. إلا أن هذه الفلسفة قد تناقضت مع نشرك على باب مكتبك أشياء غير صحيحة، والتي يبدو أنه ليس لديك معلومات كافية عنها.

أرى أننا، وبصفتنا باحثين وعلماء، ينبغي علينا أن ندعو إلى السلام. إن المنشور الملصق على باب مكتبك يبرر الحرب الوحشية على غزة، والتي في الواقع لم تستهدف المسلحين. لقد قتل في هذه الحرب آلاف المدنيين الفلسطينيين، وخاصة من الأطفال والنساء، وأصيب آلاف آخرون بجروح خطيرة. كما تعرضت آلاف المباني المدنية لهجمات عنيفة، بما في ذلك المباني ومراكز الإيواء الخاصة بالأمم المتحدة. إن منشورك هذا بمثابة دعوة لمزيد من القتل ومزيد من التدمير. هل هذا إنصاف يا أستاذتي

باعتباري أحد طلبتك، فإني تألمت كثيرا بسبب هذا المنشور، لن يكون أطفالي في غزة سعداء عند معرفة أن أستاذة من أساتذتي تدعم الحرب على غزة. لا أعتقد أن هذا يتناسب مع فلسفتك التعليمية الرائعة المتعلقة بـ ‘إنصاف الطلبة’. مفهوم ‘الطلبة’ هنا ينطبق على طلبتك الجامعيين الفعليين وكذلك على أولئك الذين يقصدونك بصفتك باحثة وعالمة عظيمة زادت المعرفة ثراء على مدار سنوات.

لا شك بأن الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي معقد جدا؛ ومع ذلك، فإنني أؤمن بإمكانية تحقيق حل عادل إذا بذل المجتمع الدولي جهودا معقولة من أجل وضع حد لمعاناة الفلسطينيين على مدار العقود السبعة الماضية. وعند القيام بذلك، سيكون هناك سلام دائم لجميع الدول في المنطقة.

أخيرا، آمل عندما أزورك المرة القادمة أن أرى أشياء مفيدة وممتعة وسلمية ملصقة على باب مكتبك.

أتمنى لك السلام والحب والسعادة.

المخلص، حسن النبيه..


من الجدير بالذكر، فإن رسالتي قد حققت النتيجة المطلوبة فيما يخص موقف الأستاذة. فعندما زرتها في الأسبوع التالي، رحبت بي بحفاوة، ولقد شعرت بسعادة غامرة عندما رأيت بعض الأزهار الجميلة بدلا من المنشور المتعلق بالحرب، وفيما بعد، قويت علاقتنا وتطورت إلى صداقة قوية.

كما هو موضح أعلاه، فإن أستاذتي في بوسطن تمثل الكثير من الغربيين ممن ليس لديهم معلومات كافية حول الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. لكن آخرين للأسف يتوهمون أنهم يعرفون الحقيقة.

من المشين ما نراه من ازدواجية المعايير في المواقف الدولية بين ما يحدث في الأراضي الفلسطينية المحتلة وفي أوكرانيا.

وأود أن أختم مقالتي بعدد من الملاحظات الجوهرية المفيدة:

  • لم ينشأ الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي عند تأسيس حماس عام 1987 أو فتح عام 1965؛ لكن نشأ الصراع عام 1948 عندما أقيمت دولة إسرائيل على نحو 78% من مساحة فلسطين التاريخية؛ حيث تخلل ذلك عمليات تطهير عرقي عنيفة وممنهجة نتج عنها طرد ثلثي السكان الفلسطينيين الأصليين من منازلهم، والذين تحولوا إلى لاجئين في بقية الأراضي الفلسطينية (أي الضفة الغربية، وقطاع غزة، وشرقي القدس) وفي أماكن مختلفة من العالم. وفي عام 1967، واصلت إسرائيل مشروعها الاستعماري بغزو واحتلال ما تبقى من الأراضي الفلسطينية.
  • من المشين ما نراه من ازدواجية المعايير في المواقف الدولية بين ما يحدث في الأراضي الفلسطينية المحتلة وفي أوكرانيا.
  • لقد مر 15 عاما على تجربتي التي لا تنسى مع أحد أساتذتي الأميركيين. ولقد حصلت على درجة الدكتوراه في عام 2010، ثم رجعت إلى غزة حيث أعمل أستاذا جامعيا، ومن المفجع أن الوضع قد أصبح أكثر سوءا؛ إذ شنت إسرائيل أربع حروب وحشية أخرى على قطاع غزة (في الأعوام 2012، و2014، و2021، و2023-24) مما أدى إلى سقوط أعداد أكبر بكثير من الضحايا والتسبب في مصاعب ومعاناة أشد قسوة للفلسطينيين المدنيين الأبرياء.
  • لقد فرضت إسرائيل عقوبات جماعية قاسية على سكان قطاع غزة. أنا شخصيا لا أنتمي مطلقا إلى أي جماعة مسلحة أو حتى سياسية؛ لكن قام الطيران الحربي الإسرائيلي بقصف منزلي مرتين، في حربي 2014 و2023-2024. وقصتي التي بعنوان ‘ولدت من جديد من رحم بيتي المدمر’ والمنشورة بالإنجليزية والعربية، تشرح كيف نجوت بمعجزة في حرب عام 2014 عندما تم تدمير منزلي بوحشية بينما كنت بداخله. واستغرق إعادة بناء المنزل خمس سنوات وتطلب ديونا ضخمة، لكن هالني بشدة تعرض المنزل مرة أخرى لهجوم إسرائيلي عنيف في حرب عام 2023-2024. وفي الوقت الحالي، أعيش في بؤس لا يوصف مع أسرتي وآلاف الفلسطينيين المشردين في مركز إيواء في إحدى المدارس التابعة لوكالة غوث الأمم المتحدة (الأونروا).
  • لم تنته بعد حرب إسرائيل الهمجية على غزة 2023-2024، ولقد قام العديد من المسؤولين الإسرائيليين بالتحريض وإثارة كراهية عنصرية شديدة ضد الفلسطينيين. ووصل الغباء والقسوة البالغة بأحد الوزراء الإسرائيليين أن يعتبر سكان غزة "حيوانات بشرية"، ويقترح وزير إسرائيلي آخر أن تتم مهاجمة قطاع غزة (ما يزيد عن مليوني نسمة) بقنبلة نووية.
  • ينبغي عدم إلقاء اللوم على الفلسطينيين لأنهم يرفضون أن يكونوا ‘ضحايا وديعين’. يتصور الإسرائيليون خطأً أن ما لا يمكن حله بالقوة يمكن حله بمزيد من القوة. تستطيع الطائرات والدبابات والسفن الحربية الإسرائيلية هدم منازل الفلسطينيين، وليس بيوتهم؛ وتدمير أجسادهم، وليس روحهم المعنوية. إن الفلسطينيين شعب يتصفون بالصلادة ولا يحبون الحياة فحسب؛ الفلسطينيون، وكما تقول قصيدة رفيف زيادة، هم أناس يعلمون الحياة.
  • يتوجب على إسرائيل أن تصحح ما اقترفته من ظلم ضد الفلسطينيين، ليس بالقوة، بل بالقيام بما هو صواب؛ الشعب الفلسطيني له الحق في أن يمارس حقوقه السياسية والوطنية والمدنية أسوة بسائر شعوب العالم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.