شعار قسم مدونات

ظاهرة النفاق في الحروب والأزمات (١)

الجيش الإسرائيلي أخفق بالكشف عن النفاق الهجومية قبالة مستوطنات "غلاف غزة".(تصوير مكتب الصحافة الحكومي والجيش الإسرائيلي، عممت لوسائل الإعلام للاستعمال الحر)
من علاماتهم المنافقين أنهم عند كل مواجهة يظنون أن الباطل سينتصر وأن مشروع الحق سيسحق وينتهي (الجيش الإسرائيلي)

إن النفاق آفة صعبة، ومعضلة خطيرة، وسوسة تنخر في جسد الصف المسلم، وفي ثباته وصموده، وتظهر أكثر ما تظهر في الحروب والأزمات، ولذلك ففي كل معركة وفي كل جولة قتال تخرج علينا فئة طويلة اللسان قليلة الفعال، لا يهمها إلا أنفسها، فتتطاول على العاملين لدين الله، وتهمز وتلمز المجاهدين بألسنة حداد، وتقيس كل شيء بمقاييس دنيوية مادية، وقد أخبرنا الله عز وجل عن هؤلاء وعن سلوكهم بالتفصيل، كي لا ننصدم بهم، ولا نتأثر بأقوالهم، وأخبرنا أنهم هم القاعدون المخلفون، المرجفون المثبطون، وأنهم موجودون في كل زمان ومكان، وأمرنا الله عز وجل أن نجاهدهم كما نجاهد الكفار، وأن نكشف زيفهم، وأن نغلظ عليهم، وهذا من واجبات أهل العلم التي يحرم التخلف عنها، وترك الناس فريسة لهؤلاء السفهاء، يبثون فيهم ضعف الإيمان، ويزعزعون ثقتهم بالله، ويسخرون من جهود الباذلين والعاملين لدين الله، ولذلك فلا بد من مصارحة ومفاصلة في هذا المقام، التزاما بقول الله تعالى: (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم) (التوبة:٧٣).

ثمة فرق كبير بين من تعب وأرهق وهو مع ذلك ثابت، يثق بربه، وينتظر الفرج، ويتأمل النصر، ويستمطر معية الله بأخلص الطاعات، ويثبت نفسه ويثبت الناس من حوله، وبين من يتسخط، ويتذمر، ويعترض، ويبث الوهن في القلوب

ومع اشتداد المعارك وطول أمدها وشدتها وزيادة التضحيات تبدأ بعض النفوس بالانهيار، ويخرج منها ما لا يليق من الكلام والتصرفات، وربما تعب الجسد وضيق النفس في مثل هذه الأوقات هو حالة طبيعية ومقبولة في الشدائد والأزمات، ولكن المؤمن الواثق بربه سرعان ما يلجأ ويرجع إلى الله فيستمد منه القوة ويتعافى، كما أخبر تعالى عن حال المؤمنين: (وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون) (الأعراف٢٠٠-٢٠١)، وكما قص الله علينا قصة صبر الفئة المؤمنة ولجوئها إلى الله بعد عدة امتحانات واختبارات في قصة طالوت وجالوت، كما في قوله تعالى: (فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين فهزموهم بإذن الله) (البقرة: ٢٤٩-٢٥١)، وكما أخبرنا الله تعالى عن خوف المؤمنين يوم الأحزاب، ثم أخبرنا عن ثباتهم وثقتهم بالله، فقال تعالى: (إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديد) ثم قال ربنا بعدها بآيات عن حال المؤمنين رغم كل هذا الخوف: (ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هٰذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسولهۚ وما زادهم إلا إيمانا وتسليما من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضىٰ نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا) (الأحزاب:٢٢-٢٣).

وثمة فرق كبير بين من تعب وأرهق وهو مع ذلك ثابت، يثق بربه، وينتظر الفرج، ويتأمل النصر، ويستمطر معية الله بأخلص الطاعات، ويثبت نفسه ويثبت الناس من حوله، وبين من يتسخط، ويتذمر، ويعترض، ويبث الوهن في القلوب، ويقتل العزائم في النفوس، ويستهزئ بالمؤمنين وجهادهم، فالأول مؤمن مصابر، والثاني منافق فاجر.

وقد ذكر الله تعالى أوصاف المنافقين في سور متعددة من القرآن الكريم، كي نعرفهم ونحذر منهم، ولا نقع في شباكهم وخبثهم، ففي سورة الأحزاب ذكر تعالى من أحوالهم أنهم يتصفون بالبخل والجبن وضعف الإيمان، وأنهم لا يقاتلون ولا يجاهدون، بل هم بنص القرآن معوقين وعائق في طريق الجهاد، ومع ذلك فلهم ألسنة طويلة حادة ينتقدون بها العاملين لدين الله، ويسخرون منهم، ويستكثرون من سيئاتهم وأوزارهم، فلا هم أعدوا واستعدوا، ولا جاهدوا وصدوا، ولا سكتوا فسلموا، يقول الله تعالى عنهم: (قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلا  أشحة عليكم فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشىٰ عليه من الموت فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد أشحة على الخير أولٰئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم وكان ذٰلك على الله يسيرا) (الأحزاب:١٨-١٩).

وفي سورة آل عمران بيان صريح من الله عز وجل عن وصف المنافقين وحالهم، وأنهم دائما يؤثرون القعود والسلامة الموهومة، وينتقدون العاملين المجاهدين، ويقولون عن المجاهدين أنهم لو قعدوا وخنعوا وذلوا، لما حصل الذي حصل، وينبهنا وينهانا الله عز وجل عن التشبه بالكفار بمثل هذا الكلام وهذا السلوك وهذا الاعتقاد، فيقول سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذٰلك حسرة في قلوبهم والله يحيي ويميت والله بما تعملون بصير ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون) (آل عمران: ١٥٦-١٥٧).

من علامات المنافقين أنهم ليس عندهم احتساب لأجر غيبي، وثواب أخروي، بل يرضون ويسخطون حسب تحقيق مصالحهم الشخصية الدنيوية، فإن رأوا منك دنيا وعطاء، رضوا عنك، وإذا جاء ابتلاء ومنع، سخطوا عليك وعلى فكرتك وعلى مشروعك

وبعدها بآيات يقرر الله عز وجل هذا الأمر بجلاء ووضوح، ويكشف ويفضح قائليه، فيقول تعالى مبينا هذه الحالة، ومشنعا عليهم ومقرعا لهم: (وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا قل فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون) (آل عمران: ١٦٦-١٦٩).

وفي سورة التوبة ما يخلع القلب في وصف المنافقين وذمهم وكشفهم وفضحهم، بل إن سورة التوبة يكاد يكون جلها في الحديث عن هؤلاء وفضحهم، ولذلك فمن أسماء هذه السورة: الفاضحة والكاشفة، فجاء في وصفهم وعلاماتهم أنهم لا يقاتلون ولا يستعدون للقتال، بل منهجهم وطريقتهم هي الخضوع والخنوع للظلم والكفر، وسبحان العليم الحكيم ففي عدم خروجهم للقتال مع المجاهدين خير، لأن نفوسهم ضعيفة لا تحتمل المعارك ومواقف الرجال، وسيبثون الفتنة والجبن في القلوب، قال تعالى: (ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل قعدوا مع القعدين لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خللكم يبغونكم الفتنة وفيكم سمعون لهم والله عليم بالظلمين) (التوبة: ٤٦-٤٧).

ومن علامات المنافقين أنهم ليس عندهم احتساب لأجر غيبي، وثواب أخروي، بل يرضون ويسخطون حسب تحقيق مصالحهم الشخصية الدنيوية، فإن رأوا منك دنيا وعطاء، رضوا عنك، وإذا جاء ابتلاء ومنع، سخطوا عليك وعلى فكرتك وعلى مشروعك، قال تعالى عنهم: (ومنهم من يلمزك في الصدقت فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون) (التوبة: ٥٨).

ومن علاماتهم أنهم عند كل مواجهة يظنون أن الباطل سينتصر، وأن مشروع الحق سيسحق وينتهي، ولذلك يبدأون بإخراج ما طويت عليه قلوبهم من غل وحقد، كما في  قوله تعالى: (بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلىٰ أهليهم أبدا وزين ذٰلك في قلوبكم وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا) (الفتح:١٢)، وقوله تعالى: (وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا) (الأحزاب:١٢-١٣).

ثم بعد اندحار العدو واستعادة المجاهدين لقوتهم، ومواجهة المنافقين بكلامهم وتصريحاتهم يتذرعون بأنهم كانوا يمزحون ويلعبون، كما قال تعالى: (يحذر المنفقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزءوا إن الله مخرج ما تحذرون ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وءايته ورسوله كنتم تستهزءون) سورة التوبة: ٦٤-٦٥، وكما قال تعالى عنهم: (يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبأنا الله من أخباركم وسيرى الله عملكم ورسوله ثم تردون إلى علم الغيب والشهدة فينبئكم بما كنتم تعملون) (التوبة: ٩٤).

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.