شعار قسم مدونات

داء العطب قديم.. عندما ينتقد السلطان بلاده!

الصور 5: المغرب/ الرباط/سناء القويطي/ نقوش شعرية على جدران قصر غرناطة
يستحضر السلطان أبياتا شعرية وقصائد تخدم فكرة ومضمون كتابه منها أشعار امرئ القيس ولسان الدين بن الخطيب والإمام الحسن اليوسي (الجزيرة)

جمع بعض سلاطين الدولة العلوية وأمرائها بين شخصية السلطان الحاكم والمثقف العالم، لعل أشهرهم السلطان محمد الثاني بن إسماعيل، ومحمد بن عبد الله، وولده المولى سليمان، والسلطان عبد الحفيظ بن الحسن الأول. منهم من كان نزاعا إلى الأدب والتاريخ والدراية بعلم الأنساب وأيام العرب، ومنهم من اعتنى بعلوم الشريعة وحذق في الحديث والتفسير، ومنهم من برع في التأليف والكتابة في التصوف والشريعة والحديث النبوي.

وقد جرى المولى عبد الحفيظ على سنة السلطان سيدي محمد بن عبد الله في العناية بأمهات كتب الحديث ومصادر الفقه المالكي، والاشتغال بالمتن الخليلي كأبيه الحسن الأول، من ذلك تأليفه لكتاب "العذب السلسبيل في حل ألفاظ خليل" في طبعته الأولى سنة 1326 هجرية، و"نظم في مصطلح الحديث".

واتخاذه مجلسا خاصا جمع فيه خيرة علماء شنقيط، وأمره بطبع كثير من "الكتب التي كانت تسمع ولا ترى في التفسير والحديث والفقه والأصول".

وعمله على إحياء قراءة صحيح الإمام محمد بن إسماعيل البخاري في شهر رجب، ونقله لها لأول مرة إلى الرباط. وبادر بكتابة مؤلف نقدي لأوضاع المغرب وأدوائه التي أودت به إلى حالة الحماية والاحتلال، وهو الكتاب الذي نقدمه للقراء في هذه المادة.

يستحضر أبياتا شعرية وقصائد تخدم فكرة ومضمون كتابه، منها أشعار امرئ القيس ولسان الدين بن الخطيب والإمام الحسن اليوسي، بل ويتحفنا بأبيات من نظمه هو، فقد كان يجيد الشعر كما يجيد النثر.

رسالة المؤلف وفصول المؤلف

إن هذه النسخة الإلكترونية لكتاب "داء العطب قديم" صدرت مضبوطة ومحققة بقلم الأستاذ محمد الراضي كنون الحسني، بدون تاريخ الطبع، ولا ذكر لاسم الناشر، في 197 صفحة، أراد منه مؤلفه السلطان عبد الحفيظ بن الحسن أن يكون نقطة بحث في الأسباب التي أدت إلى ما أسماه "اضمحلال المغرب" ودراستها متى كانت، وكيف حصد السلطان العاثر الحظ الثمرة المرة لتهافت الأجانب على بلاده. وجعل كتابه رسالة مفتوحة ليعلم كل "منصف ما تكابده الملوك من المشاق والمصاعب بسبب جهل الرعية وعدم الانقياد"، وليس هذا في زمنه هو، بل داء العطب قديم حسب تعبيره.

خصص السلطان العالم فصلا للحديث عن عواصم المغرب التاريخية الثلاث، مراكش وفاس ومكناس وطبائع أهلها، وما لاقاه من قبائلها في المدة القصيرة التي تولى فيها حكم البلاد. وفصلا آخر استدعى فيه كما غزيرا من الرسائل السلطانية لأشهر سلاطين الدولة السعدية؛ أحمد المنصور الذهبي (ت 1603)، وفصلا ثالثا رصد فيه أسباب ضعف المغرب واضمحلاله.

وهو في كل هذا يعود لمصادر عربية للتأريخ لتاريخ المغرب، ويستحضر أبياتا شعرية وقصائد تخدم فكرة ومضمون كتابه، منها أشعار امرئ القيس ولسان الدين بن الخطيب والإمام الحسن اليوسي، بل ويتحفنا بأبيات من نظمه هو، فقد كان يجيد الشعر كما يجيد النثر.

يتصفون بالإعراض عن مراتب الترقي، ويميلون للعب واللهو أكثر، ولا ينهضون لما يحرك دواعي الرجال، ويقدمون العوائد الوقتية والدنيوية على الأمور الدينية. أما المسارعة إلى رفع المنكر فلا يكادون ينهضون إليها، ولا يصلح حالهم إلا مع ما سماه "الضغط"، أو الدوافع الخارجية تحت سلطة من لا يعمل فيهم شفقة ولا رحمة.

نقد علل واختلالات المغاربة

في وصفه لطبائع المجتمع المغربي؛ يتحدث المولى عبد الحفيظ بنوع من الحسرة والعتب قائلا: "أعلم أن من طبيعة هذا النوع المغربي حب الدنيا وبذلها من غير مبالاة في شهواتهم، حسب أغراضهم، خصوصا في الأعراس والولائم إلا القليل منهم، والبخل في صرفها في المصالح الدينية، وهم في ذلك على قسمين، قسم يستعمل ذلك حسدا في الأمراء والأعيان، وقسم يستعمل ذلك لقلة دينه"، ويرجع السلطان عبد الحفيظ سبب تهافت كثير من الباشوات والأعيان الصغار والتجار على الحماية الأجنبية إلى هذين السببين.

ويرصد خللا مجتمعيا آخر في طبائع المغاربة؛ ذلك أنهم "يتساقطون على أهل المناصب ولو من غير جنسهم ودينهم، وينحرفون عنه بسهولة إذا كبا بهم فرس الدهر، ألفوا ذلك حتى صار لهم معرة في فعلهم".

ومن ذلك، أنهم يتصفون بالإعراض عن مراتب الترقي، ويميلون للعب واللهو أكثر، ولا ينهضون لما يحرك دواعي الرجال، ويقدمون العوائد الوقتية والدنيوية على الأمور الدينية. أما المسارعة إلى رفع المنكر فلا يكادون ينهضون إليها، ولا يصلح حالهم إلا مع ما سماه "الضغط"، أو الدوافع الخارجية تحت سلطة من لا يعمل فيهم شفقة ولا رحمة.

وينفي السلطان عن أغلب من تعامل معهم الوفاء بالعهود، ويصمهم بالتنمر ضد الضعيف، والاستئساد على من يرون منه اللين والمعاملة اللطيفة.

يرى السلطان أن الغيبة والنميمة واللمز بالسوء تنتشر بكثرة في أوساط المغاربة، بحيث يبادلون بعضهم البعض عبارات الإكبار والفخر، وإذا ما تولوا الأدبار تكلموا في بعضهم بالسوء والتنقيص والاحتقار. أما الداء العضال الذي ينتشر فيهم أكثر من غيره؛ فالطمع، الذي يفسد "جماعتهم" بتعبير السلطان، ولا يكاد ينجو في رأيه من هذا الداء "عمومهم وخصوصهم".

ومما رصده بعين السلطان والفقيه أيضا؛ انقسام أهل البادية والجبال إلى نوعين، "قسم متدين، وقسم كأنهم لم تبلغهم الدعوة (..) أما أخلاقهم فَالغالب عليها الجفاوة"، والضعف البيّن في المعرفة بأمور الدين وقول الشريعة في الأخلاق والمعاملات.

يعيد كتاب "داء العطب قديم" استحضار عدد كبير من الرسائل التي السلطانية بين المولى إسماعيل وبنيه فيما بين 1689 و1698، الذين كانوا وولاته وخلفاؤه على أقاليم المغرب منذئذ، من باب إعادة التذكير بأمجاد سياسة المولى إسماعيل وحزمه في متابعة أوضاع البلاد وأحوال الولاة بمن فيهم أولاده

في أسباب اضمحلال المغرب

من المثير للغرابة ربط المولى عبد الحفيظ لانحطاط المغرب في عهده بمرحلة السلطان محمد المأمون السعدي الذي سلم العرائش للإسبان عام 1609 ومن ثم فتح شهية المستعمرين للتساقط على ترابنا، مع إيراده لكثير من الرسائل السلطانية السعدية المتبادلة بين سلاطين الدولة وملوك إسبانيا والبرتغال وإنجلترا، بهدف أن يعرف المغاربة بما كان لتلك الدول بالقطر المغربي من "مديد المساعدة للدول الأجنبية، وإهمال الأمور البحرية، التي إهمالها سبب لكل بلية".

كما يربط سوء الأوضاع في عصره بسبب مباشر يعود لمرحلة السلطان عبد الله بن إسماعيل العلوي (ت 1757)، الذي طال في عهده الفساد واستشرت تدخلات جيش عبيد البخاري في الشؤون السياسية، حتى أدت بالبلاد إلى الفتن والصراعات والتنازع على الحكم. يسترجع السلطان عبد الحفيظ فصول هذا التاريخ بمرارة، ويتحسر على الزمن الذهبي للمولى إسماعيل الذي نسفت جهوده في الأمور الداخلية والخارجية على يد ورثته.

يعيد كتاب "داء العطب قديم" استحضار عدد كبير من الرسائل التي السلطانية بين المولى إسماعيل وبنيه فيما بين 1689 و1698، الذين كانوا وولاته وخلفاؤه على أقاليم المغرب منذئذ، من باب إعادة التذكير بأمجاد سياسة المولى إسماعيل وحزمه في متابعة أوضاع البلاد وأحوال الولاة بمن فيهم أولاده، والرسائل مبثوثة في أكثر من مَصدر مِن مصادر صَدر الدولة العلوية، لم يزد المولى عبد الحفيظ أنْ أوردها بطولها وروحها، قاصدا منها تبيان ما عاناه المولى إسماعيل مع أقرب الناس إليه، وما كابده في سبيل ترسيخ نظم الدولة وتعزيز صولتها وتثبيت أقدامها في بيئة عانت من الاضطراب والتنافس الحاد بين الزعامات والنفوذ القوي للمرابطين والحركات الصوفية.

لكأننا أمام هذا الكتاب نقرأ ونتأمل في السلطان عبد الحفيظ يتمحل وصل ماضي جده الأكبر بحاضره هو، عله يكسب عطف من لم يعايشوا مرحلة 1908 – 1912 ويتفهموا ظروف سقوط المغرب بيد دول الاحتلال، ويربطوا _ بدورهم _ علل مغرب ما قبل الحماية بجذورها وأسبابها، ويعذروا عبد الحفيظ الذي فضل أن يكون آخر سلاطين الاستقلال على أن يكون أول سلاطين زمن الاحتلال.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.