شعار قسم مدونات

من معالم الصراع بين الحق والباطل

التشفي من الكفرة والمجرمين في الآخرة متحقق يقينا وأما في الدنيا فهو متحقق لأمة محمد صلى الله عليه وسلم مآلا (أسوشيتد برس)

إن المتتبع لمعالم المعركة بين الحق والباطل من خلال آيات القرآن الكريم ليدرك أن المعركة شرسة جدا في بعض محطاتها، بل قد تصل إلى حد الاستئصال والإبادة والتلذذ من الباطل وأهله برؤية عذابات المقهورين والمعذبين، وانظر مثلا إلى قصة أصحاب الأخدود كيف يصف الله تعالى المشهد : (قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ* النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ* إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ* وَهُمْ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ* وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) [البروج:٤-٨]، وانظر إلى وصف الله عز وجل لما كان يفعله آل فرعون ببني إسرائيل: (يَسُومُونَكُمْ سُوٓءَ ٱلْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِى ذَٰلِكُم بَلَآءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيم) سورة البقرة: ٤٩، ثم انظر إلى وصف النبي صلى الله عليه وسلم للعذاب الذي حل بالمؤمنين ممن سبقنا، كما جاء عند البخاري في صحيحه: "كانَ الرَّجُلُ فِيمَن قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ له في الأرْضِ، فيُجْعَلُ فِيهِ، فيُجَاءُ بالمِنْشَارِ فيُوضَعُ علَى رَأْسِهِ فيُشَقُّ باثْنَتَيْنِ، وما يَصُدُّهُ ذلكَ عن دِينِهِ، ويُمْشَطُ بأَمْشَاطِ الحَدِيدِ ما دُونَ لَحْمِهِ مِن عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ، وما يَصُدُّهُ ذلكَ عن دِينِه".

وهذا العذاب وهذا الظلم وهذا البغي الواقع من أهل الباطل على أهل الحق لابد له من عقوبة عدل يقتص فيها من الظالم للمظلوم، ويشفى صدر المظلوم بميزان العدل، وربما يظن البعض أن الانتقام والتشفي من الظالم فيه نوع من عدم سمو الأخلاق والذوق، نتيجة للتربية والتعبئة الخاطئة عند الكثيرين، والمبنية على أن الإسلام هو دين اللين والسماحة، وعدم التفريق بين مقام الدعوة ومقام الجهاد، ولكن المتأمل في آيات القرآن الكريم وبعض أحداث السيرة والتاريخ والواقع، ليجد أن التشفي من العدو هو مقصد شريف، بل ومطلوب في أوقات المواجهة مع الذين لا يراعون حقا ولا خلقا ولا ذمة في فجورهم وإجرامهم،  فقد أمرنا الله بقتالهم والغلظة والشدة عليهم، (أشداء على الكفار)، (واغلظ عليهم)، (وليجدوا فيكم غلظة)، (ترهبون به عدو الله)، وأصرح من ذلك أمر الله عز وجل لنا: (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ* وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ) [التوبة: ١٤-١٥].

الابتلاء عظيم للسالكين في طريق الحق، فقد يشهدوا ذل عدوهم في الدنيا ويشفوا صدورهم، وقد يموتوا مظلومين قبل أن يشهدوه، وقد ربى الله نبيه صلى الله عليه وسلم في القرآن على هذه الحقيقة، وهي أن وعد الله متحقق، وأن عقاب الله نازل بالكافرين، ولكن ليس شرطا أن يشهده في الدنيا كل واحد من أفراد المؤمنين والصابرين.

وتأمل في قوله: (ويشف صدور قوم مؤمنين) كم فيها من معاني الارتياح بالانتقام من هؤلاء الفجرة، ثم تأمل قوله: (ويذهب غيظ قلوبهم)، لتعلم كم كان في القلب من كمد بتسلط الفجار علينا، ثم هدأ بالانتقام منهم، بل وهذا مقصد شرعي في قتالهم، وانظر كيف جعل الله مراغمة وإغاظة الكفار من الأعمال الصالحة الذي يثاب عليها المؤمنون، كما في قوله تعالى: (ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِين) [التوبة:١٢٠]، وقد عد ابن القيم هذه العبادة ﻋﺒﻮﺩﻳﺔ عالية، وقال عنها:  "ﻭﻫﻲ ﺗﺴﻤﻰ عبوﺩﻳﺔ اﻟﻤﺮاﻏﻤﺔ، ﻭﻻ ﻳﻨﺘﺒﻪ ﻟﻬﺎ ﺇﻻ ﺃﻭﻟﻮ اﻟﺒﺼﺎﺋﺮ اﻟﺘﺎﻣﺔ، ﻭﻻ ﺷﻲء ﺃﺣﺐ ﺇﻟﻰ اﻟﻠﻪ ﻣﻦ ﻣﺮاﻏﻤﺔ ﻭﻟﻴﻪ ﻟﻌﺪﻭﻩ، ﻭﺇﻏﺎﻇﺘﻪ ﻟﻪ". مدارج السالكين (١/٤١٤).

ثم انظر كيف ذكر الله امتنانه على المؤمنين من بني إسرائيل بأن أراهم هلاك عدوهم أمام عيونهم كما في قوله: (وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ) [البقرة:٥٠]، وتأمل في قوله: (وأنتم تنظرون)، كم فيها من شفاء القلب، وتشف من الظالم الفاجر الذي سامهم سوء العذاب.

ثم انظر إلى نبينا صلى الله عليه وسلم بعد غزوة بدر كيف يخاطب ويوبخ صناديد الكفر الذين أكثروا الأذى بالمسلمين، كما جاء عند البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف على قليب بدر، وهو البئر التي ألقي فيها صناديد الكفر مِن قريش وسادتهم الذين قتلوا في معركة بدر، وخاطبهم صلى الله عليه وسلم بأسمائهم، فنادى كل واحد منهم على حدة بأسمائهم وأسماء آبائهم، توْبيخا لهم، وقد جاء في صحيحِ مسلم التصريح بأسمائهم: «يا أبا جَهلِ بنَ هِشامٍ، يا أُميَّةُ بنَ خَلَفٍ، يا عُتْبةُ بنَ رَبيعةَ، يا شَيْبةُ بنَ رَبْيعةَ»، ثم خاطبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلا وموبخا: هل وجدتم ما وعد ربكم من العقاب حقا؟

إذا علمت كل هذا فاعلم أن في هذا ابتلاء عظيم للسالكين في طريق الحق، فقد يشهدوا ذل عدوهم في الدنيا ويشفوا صدورهم، وقد يموتوا مظلومين قبل أن يشهدوه، وقد ربى الله نبيه صلى الله عليه وسلم في القرآن على هذه الحقيقة، وهي أن وعد الله متحقق، وأن عقاب الله نازل بالكافرين، ولكن ليس شرطا أن يشهده في الدنيا كل واحد من أفراد المؤمنين والصابرين، وتأمل معي هذا الموضع من سورة غافر، قال الله عز وجل: (الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُون)، تأمل مستوى ونوع هذا التهديد المرعب! (فسوف يعلمون)، ويا ويلهم والله من انتقام الملك المنتقم الجبار، ثم يقرر الله بعدها بآيات حقيقةً مهمة في قوله: (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُون)، فانظر كيف يأمر الله نبيه بالصبر واليقين بحصول وعد الله بإهلاك الظالمين، وفي نفس الوقت يربي نبيه صلى الله عليه وسلم على احتمالية أن يرى ذلهم وعذابهم في الدنيا، أو أن يتوفى قبل ذلك، فتكون عقوبتهم في الآخرة، وذلك لتتأكد مركزية الآخرة في العقل والتصور والمنطلق والغاية، وأنها دار الحق والعدل، وهذا الذي يطمئننا الله عز وجل به في إخبارنا عن تشفي المؤمنين من الكافرين في مشهد الاخرة، وتأمل معي هذا المشهد القرآني: (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ*وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ* وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَىٰ أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ* وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَٰؤُلَاءِ لَضَالُّونَ* وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ*فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ* عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُون* هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُون) [المطففين ٢٩-٣٦]، تأمل كم عانى المؤمنون من عذابات الفجار وسخريتهم وأذاهم في الدنيا، وكم امتلأت قلوبهم كمدا وغيظا وقهرا وهم ينتظرون اللحظة التي ينتقمون فيها من عدوهم أو يرون هلاكه أمام عيونهم، ولكنهم رحلوا إلى  دار الحق مظلومين، وأجل الحساب والعقاب إلى هناك، وما أدراك ما هناك؟، فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون، نعم يضحكون ويرون عذاب الكافرين وانتقام الله منهم، بل ويخاطبونهم موبخين لهم ومقرعين، هل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟، ويجاب على السؤال وقتها بعين اليقين، هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون؟، نعم والله يا رب، جوزوا جزاء وفاقا على كفرهم وفجورهم، ورضينا يا رب.

إن التشفي من الكفرة والمجرمين في الآخرة متحقق يقينا، وأما في الدنيا فهو متحقق لأمة محمد صلى الله عليه وسلم مالا، لفئة معينة منهم، ومهما طغى الباطل وتجبر فالحق في النهاية منتصر وغالب.

وينقل لنا ربنا سبحانه هذا الحوار الذي سيدور بين أهل الجنة وأهل النار ممن ظلموهم وكفروا بالله وحاربوا أولياءه وعباده، وكيف أن المؤمنين سيوبخونهم ويقرعونهم ويعيرونهم وقتها، قال تعالى: (وَنَادَىٰ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِين) [ الأعراف:٤٤]، يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: "يخبر تعالى بما يخاطب أهل الجنة أهل النار إذا استقروا في منازلهم، وذلك على وجه التقريع والتوبيخ"، ويقول صاحب التفسير الوسيط: "والمعنى أن أصحاب الجنة سوف يسألون أهل النار سؤال تعيير وتوبيخ يوم القيامة، فيقولون لهم: قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا من الثواب ومن الجزاء، فهل وجدتم أنتم ما وعدكم ربكم حقا من العقاب وسوء المصير؟".

ولذلك فإن التشفي من الكفرة والمجرمين في الآخرة متحقق يقينا، وأما في الدنيا فهو متحقق لأمة محمد صلى الله عليه وسلم مآلا، لفئة معينة منهم، ومهما طغى الباطل وتجبر فالحق في النهاية منتصر وغالب، فقد أعطى ربنا سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم ضمانا ألا يسلط على أمته عدوا من غيرهم فيستأصل شأفتهم، وأخبر صلى الله عليه وسلم أنه لا تزال طائفة من الأمة ظاهرة على الحق، يقاتلون حتى يأتي أمر الله، وأمر الله المذكور في الحديث كما في بعض الأقوال هو النصر والتمكين للمؤمنين، ولا يُشترط لكل فرد من أفراد الطائفة المؤمنة المجاهدة أن يشهد تلك اللحظة، ولكن البعض سيشهدها يقينا، وهنا الابتلاء والتوازن في تربية الجيل والصف على البذل والعطاء والثبات وعدم التعلق بالنصر، مع الثقة بمجيئه وتحققه، وتوطين النفس على التضحية وفعل الواجب والسعي لرضى الله والجنة، فالعقد مع الله جنة، والنصر من الله منة، (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيم) [ التوبة:١١١].

اللهم اهدنا وثبتنا وأعنا واستعملنا وتقبل منا واقبلنا، والحمد لله رب العالمين

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.