شعار قسم مدونات

عن أفئدتنا التي فرغت!

واصلت طائرات الجيش الإسرائيلي، فجر اليوم الأحد، قصف مخيمي "النصيرات" و"البريج" وسط قطاع غزة، ومدينة خان يونس جنوبي القطاع. مراسم صلاة الجنازة والتجهيز لدفن عدد من الشهداء في مستشفى شهداء الاقصى بدير البلح وسط قطاع غزة. ( Ashraf Amra - وكالة الأناضول )
قمت بزيارة أمهات فقدن أكثر من خمسة أولاد وكان حديثهن الرضا (وكالة الأناضول)

كل ليلة ومع نزول قائمة بأسماء الشهداء، كنت أفتح النافذة، وأنظر إلى السماء هل تبدل حالها بعد أن استقبلت أرواحهم الطاهرة، وأفكر كيف سيكون مشهدهم في تلك النقلة العظيمة ما بين حياة الدنيا وحياة الخلود؟ كان رحيلهم يؤلمني لوهلة، ولكن كلما قرأت أو سمعت عن سيرتهم الطيبة، وأثرهم الذي تركوه وحسن خاتمتهم أشعر بالطمأنينة والسعادة لأجلهم، فقد أصبحوا في مكان آمن، في نعيم أبدي، أحسبهم والله حسبهم أن الشهادة كتبت لهم وهم يستحقونها، وإنها نهاية لا تكون لكل البشر، لكنه اصطفاء الله، ولابد وأنهم قد استحقوه عن جدارة، ولكن أمرا واحدا كان يقلقني ويشغل تفكيري، وأشعر بغصة، ذلك عندما أفكر بشعور أمهاتهم، كيف تلقوا الخبر؟ أتراهم صبروا؟ أتراهم جزعوا؟ وهل واسهم أحد، أو وقف إلى جوارهم أحد وحدثهم عن هذا الحق الذي يسمى الموت، وكيف يمكن تقبله؟

خلال الأعوام التي مضت طرقت أبوابا كثيرة، وتعرفت إلى أمهات شهداء كثر، وفي كل مرة كانت شجاعتي لأجل رؤيتهن تزداد عن المرات الأولى التي قررت فيها تعلم المواساة

أسئلة كثيرة كانت تلفني بالحيرة، وأظل أتحين فرصة لأجد صديقة ما ترافقني لزيارة أم الشهيد، وعلى الرغم من صعوبة قرار كهذا، إلا أن ما نسميه واجبا في ديننا وتقاليدنا وعاداتنا كان يفرض نفسه، أن نزور بيتا لا نعرف سكانه من قبل أن يوقد داخله قنديل الشهيد، فيغدو قبلة الناس، يأتون إليه من كل فج، ليزفوا التهاني، ويمسحوا الدموع، ويحاولوا تضميد الجراح، ولعل هذه الواجبات التي تحركهم تترجمها حالة من الصمت تعم المجلس، لكنها تقول الكثير.

خلال الأعوام التي مضت طرقت أبوابا كثيرة، وتعرفت إلى أمهات شهداء كثر، وفي كل مرة كانت شجاعتي لأجل رؤيتهن تزداد عن المرات الأولى التي قررت فيها تعلم المواساة، ولحسن الحظ فقد أنعم الله علي حينها بصديقة تجيد تحويل الصمت إلى حالة من التركيز والتأمل في أجر الشهيد، وما أعده الله تعالى له من خير ومغفرة حتى مع قطرة دمه الأولى، وكنت على الرغم من حاجتي للإنصات إلى كلماتها في التثبيت الإيماني، وسعادتي وأنا أرى ملامح الأم تزداد طمأنينة، أرغب في أن أسمع قصة هذا الشهيد، وأن أتابع الزاوية المخفية من حياته، والتي عادة لا تكتب عنها صفحات الأخبار، ولا يعرفها حتى رفاقه المقربين، فلربما كتبت عنه قصة مختلفة تستحق أن تروى لكل العالمين.

كانت الأم تسرد كل التفاصيل الجميلة من حياة الشهيد، سيرة ذاتية موجزة وسريعة، على لسان أم، ما أبلغ كلام الأمهات، تحدثنا عن صلاته وعباداته، وحرصه على رضاها، عن مستقبله وطموحاته، خططه التي كان يرسمها لتأسيس حياة سعيدة، وما بين عبارة وأخرى وقفة صمت وتذكر، كيف كان اللقاء الأخير وداعا دون وداع، وماذا قال قبل أن يغادر المنزل، وآخر رسالة كتبها عبر الواتساب، آخر صورة التقطها، كل التفاصيل جزء من تشكيل الصورة، ومشاركتها إيانا هو جزء من محاولتها تقبل الواقع أو تصديقه، محاولة كي تحف قلبها بدثار من الرضا والتسليم لأمر الله، كي تتمكن من متابعة الحياة في غيابه.

رغبتي في قراءة المشهد كانت تلتقي مع رغبة أم الشهيد في التعرف إلى جوانب غابت عنها، تسأل الوافدين عنه، كيف عرفوه، وماذا كتبوا عنه، وهل أثنوا عليه خيرا؟ وكأن القلق الذي كن يحملنه لأولادهم في حياتهم لأجل مستقبل أفضل، ولأجل سعادتهم واستقرارهم، قد تحول فجأة إلى قلق لأجل الآخرة، كل أم تريد أن تتأكد أن كل الصورة مشرقة، وأن الشهيد ينتظرها بعد عمر من الصبر في حياة الخلود.

الحياة ولادة بمزيد من الطيبين الأخيار، والرضا بقضاء الله وقدره مفتاح الصبر، والتمسك بالحق ومتابعة الطريق هو خير مواساة لأنفسنا، وخير ما نقدمه لمن رحلوا، ولذويهم الذين صبروا

لا أذكر أبدا على مدار الثلاث عشرة سنة التي مضت أنني زرت أما قد جزعت، أو فقدت صبرها، ولا أذكر أنني دخلت مجلسا وسمعت فيه سوى الصبر والاحتساب، رغم الحزن العميق الذي كان يلف المشهد، رغم وجود شهداء كان أحدهم الابن الوحيد للأسرة أو الابنة الوحيدة، قمت بزيارة أمهات فقدن أكثر من خمسة أولاد وكان حديثهن الرضا، بل كانت إحداهن تواسي أختها لتمدها بالقوة والثبات، وتخبرها كيف تجاوزت هي محنتها، وكيف على الحياة أن تستمر، وعلى الحق أن يجد أنصاره.

لا تنتابني ذرة شك أن المحنة التي تتعرض لها الأمة وهي تفقد خيرة أبنائها هي منحة صعبة وقاسية، لكنها امتحان صبر وثبات على المبادئ، ماذا ترانا سنفعل من بعدهم، إن رحل الطيبون الأخيار هل ستعلن النهاية؟

الحياة ولادة بمزيد من الطيبين الأخيار، والرضا بقضاء الله وقدره مفتاح الصبر، والتمسك بالحق ومتابعة الطريق هو خير مواساة لأنفسنا، وخير ما نقدمه لمن رحلوا، ولذويهم الذين صبروا، حين يجدون حولهم من يستمر على ذات الطريق سيكون الشعور شعور انتصار، ليست خسارة أنهم أصبحوا في الجنة، وبأنهم تركوا أثرا طيبا، ليست خسارة في أنهم حققوا أهدافا عظيمة مختلفة عن أهداف الآخرين، بل هو مكسب كبير للأمة والتاريخ، كلما فكر الأعداء أننا انتهينا، نجد الأمهات العظيمات ينجبن أبطالا عظاما، ويربينهم على الصلاح، فإن استشهدوا فهو شرف وخير، وإن تابعوا فلأجل أن يتابع أهل الحق، وإن فرغت أفئدتنا تذكرناهم فتداوينا بجميل الصبر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.