شعار قسم مدونات

عبر البوسنة.. تاريخ في البلقان يلد حاضرا في فلسطين (10)

علي عزت بيجوفيتش
علي عزت بيجوفيتش (رويترز)
  • الطريق إلى زينيتسا.. في صحبة مقاتلي العرب في البلقان.
  • زيارة لتاريخ مسكوت عنه
  • أنفاق البوسنة وأنفاق غزة
  • بيجوفيتش من داخل النفق: ساراييفو مدينة عظيمة تستحق من رئيس الجمهورية أن يدخلها منحنيا

بعد أن تعثرت فى "الفلنكات" الخشبية التي تصل بين قضيبي الحديد الذي كان يمتد بطول النفق الضيق والذي يجري من خارج ساراييفو تحت جبال إيجمان، أنتهى بي الحال ملقي على أرضية النفق. وللوهلة الأولى، لم أستطع الرد على القائد العسكري البوسنوى كاظم الذي أخذ يصيح من ورائي مشجعا إياي على النهوض ومواصلة السير، مؤكدا أننا أوشكنا على الانتهاء من النفق. نظرت إلى كاظم وقد جلس إلى جواري على أرضية النفق، ولمته على عدم إخباري بحقيقة النفق. صمت كاظم قليلا، قبل أن يقول: "لقد خشيت بعد هذه الرحلة الرهيبة عبر الجبال أن أقول لك أن النفق يقترب طوله  من الثلاثة كيلومترات، ومن أنه بهذا الضيق والارتفاع المنخفض، أن تتراجع بعد كل ما اجتزناه. أرجو أن تقبل أسفي على عدم إبلاغك بالحقيقة من قبل بداية الرحلة، إلا أن التعليمات كانت تلزمني بألا أكشف لك عن سر النفق قبل أن نصل إليه. ولكن لا عليك يا صديقي، لنسترح جميعا قليلا قبل أن نستأنف المسير، فما أمامنا أصبح متساويا مع ما قطعناه، بحيث لم يعد التراجع الآن له معنى".

لقد كنت واثقا من أنك ستعبر النفق بالرغم من صعوبة ذلك خاصة أول مرة، فبالرغم من أننا نستخدمه طوال الوقت، إلا أنه صعب علينا نحن أيضا.

بعد ما يقرب من الخمس دقائق، هم كاظم بالنهوض، إلا أنه أشفق على، فقام بانتزاع حقيبة الظهر من على كاهلي مصرا على أن يحملها هو بدلا منى. واستأنفنا المسير لمدة عشرين دقيقة قبل أن أتوقف وأنفاسي لاهثة، وقلت له وأنا أريح ظهري على حائط النفق: "إلى هنا، ولن أستطيع السير، أنك تكذب على كما فعلت أول مرة، فمن الواضح أن النفق يطول عن الـثلاثة كيلومترات. لكم أن تتركوني هنا وبعد ساعات سأستكمل أنا المسيرة وحدي".

جعل كاظم يقسم بالله أننا أوشكنا على الوصول، وتحت ضغط تشجيعه استأنفت المسيرة. بعد دقائق سمعت كاظم يصيح قائلا:" أمعن النظر أمامك وسترى فتحة الخروج من النفق". ونظرت، إلا أنه يبدو بسبب التعب الشديد الذي كنت أعانيه، لم أر شيئا مما قاله. دقائق قليلة، وشعرت بألم فى رئتي، وذلك قبل أن أشعر براحة لم استشعرها من قبل.

كنا قد خرجنا بالفعل من فتحة النفق من دون أن ألحظ ذلك بفعل التعب الشديد. ارتميت على ظهري وأنا أتأمل النجوم القليلة التي بدت ترصع سماء ساراييفو، وأنا أملأ صدري بهواء شتاء البوسنة البارد، حامدا الله على خروجي من هذا النفق الذي بدا لي كالقبر.

تجمع عدد من المقاتلين البوسنويين حولي أنا وكاظم يتحدثون إلينا ونحن مستلقيان على ظهرينا، فى حين سارع البعض منهم لإحضار بعضا من الماء.

  • نظر لي كاظم وهو يبتسم قائلا:

لقد كنت واثقا من أنك ستعبر النفق بالرغم من صعوبة ذلك خاصة أول مرة، فبالرغم من أننا نستخدمه طوال الوقت، إلا أنه صعب علينا نحن أيضا. ابتسمت لكاظم وقلت له مداعبا: لقد ظننت أن تجربة الرحلة بالسيارة على حواف قمم جبال إيجمان وعبر الخطوط الصربية، هي المغامرة الوحيدة هذه الليلة، وقد كانت كافية لتحطيم أعصاب قدت من حديد. إلا أنك أبيت إلا أن تضيف إليها مغامرة أعنف بأن كذبت على فيما يتعلق بالنفق، ولهذا لن أسامحك. (ويبدو أن كاظم أخذ كلامي مأخذ الجد) فبادر بالقول: لقد كانت تجربة مفيدة على كل الأصعدة؛ فمن ناحية أكدت لك ضرورة أن تتوقف عن التدخين، ومن ناحية أخرى، فإنها أوضحت لك بعدا جديدا من معاناتنا، ومن جهة ثالثة، فإنها ستوضح لك مدى السقوط الأخلاقي الذي وصل إليه المجتمع الدولي، عندما تعلم أن على عزت بيجوفيتش رئيس الجمهورية الذي تخطى السبعين من عمره يضطر فى كثير من الأحيان أن يسلك هذا النفق خارجا وداخلا عاصمة بلاده التي يرأسها. اعتدلت على جانبي، وقلت لكاظم: أنت لا تتحدث صدقا، فلا يمكن لشيخ تخطى السبعين أن يعبر هذا النفق، فالأمر فوق طاقة كثير من الشباب، ناهيك عن الشيوخ. رد كاظم، وهو ينهض من على الأرض ويستنهضني جاذبا ذراعي قائلا: سأثبت لك صدقي قريبا.

بعد ذلك بأيام، طرق كاظم باب منزلي طالبا منى الإسراع بركوب سيارته إذا كنت أرغب فى رؤية الرئيس البوسنوى وهو يخرج من النفق السري قادما من العاصمة المجرية بودابست حيث شارك فى قمة منظمة الأمن والتعاون الأوروبي.

عندما وصلنا النفق، وجدت عددا من المقاتلين، وثلاثة من كبار مساعدي الرئيس يتحلقون على فتحة النفق، وقد وضعوا مقعدا أمامه. لم تمر دقائق معدودة حتى ظهر الشيخ – الذي تخطت سنوات عمره السبعين- مبهور الأنفاس لكي يتكئ على أذرعه مساعديه ليجلس على المقعد.

شعرت بأن العالم كله يجب أن ينحني ليس لعظمة يراها بيجوفيتش فى مدينة ساراييفو، وإنما أن ينحني لعظمة ذلك الرجل الذي آمن بقضية شعبه وبلاده، فملكت عليه روحه، فضحى، وجاهد قبل أن يكافئه الله هو وشعبه بأن من عليهم بالنصر.

  • بعد دقائق التفت الرئيس مخاطبا:

هل مازلت هنا منذ أجريت أخر حوار صحفي معي، أم أنك رحلت ثم قدمت مرة أخرى؟ (وكان الرئيس بيجوفيتش رحمه الله عليه يتمتع بذاكرة حديدية). رحلت، ثم عدت مرة ثانية سيادة الرئيس. ابتسم بيجوفيتش، وهو يقول: أعتقد أن إيمانك بقضيتنا هو دافعك للعودة وليس الجنون.

قلت له إنني مؤمن ليس فقط بالقضية، ولكن بأن البوسنويين سينصرهم الله بالرغم من أن كل الظروف والقوى تعمل ضدهم، والدليل على ذلك أن المجتمع الدولي يسمح للصرب بأن يجبروا رئيسا منتخبا بشكل ديمقراطي أن يدخل عاصمة بلاده بهذا الشكل.

وعند هذا الحد، سمعت من بيجوفيتش -هذا الرجل العظيم الذي لم يتخل عن شعبه فى أحلك الظروف- ما لن أنساه ما حييت.

أشار الرئيس إلى لكي أقترب منه، قبل أن يقول لي: "وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم، أنا لا أضيق من اضطراري أن أدخل عاصمة بلادي بهذه الطريقة. فبعد كل شيء ألا تتفق معي بأن ساراييفو تلك المدينة العظيمة الشامخة، تستحق من أي شخص أن يحني هامته وهو يدخلها، حتى لو كان هذا الشخص رئيس الدولة. يا بنى، أنظر إلى الجانب المشرق من الأشياء دائما".

فى تلك اللحظة، شعرت بأن العالم كله يجب أن ينحني ليس لعظمة يراها بيجوفيتش فى مدينة ساراييفو، وإنما أن ينحني لعظمة ذلك الرجل الذي آمن بقضية شعبه وبلاده، فملكت عليه روحه، فضحى، وجاهد قبل أن يكافئه الله هو وشعبه بأن من عليهم بالنصر.

وبالرغم من أن العظيم بيجوفيتش كان يتحدث ليس فقط عن عاصمته المحبوبة، إلا إنني أتخيل أنه كان يستشرف ما سيحدث بعد ما يقرب من ثلاثة عقود في غزة التي ينبغي أن ينحني أي زعيم إذا ما دخلها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.