شعار قسم مدونات

يوميات مراسل حرب في البلقان.. الصدمة والكوابيس (1)

سربرنيتسا
مقابر شهداء مذبحة سربرنيتسا (وكالة الأناضول)

كانت أصوات خروج قذائف راجمات الصواريخ التابعة لميليشيات الزعيم الصربي البسنوي رادوفان كاراجيتش التي سيطرت على التلال الواقعة وراء المنطقة التي كنت أعيش بها في ساراييفو تصم الأذان وهي في طريقها إلى ملجأ الغارات الذي اعتصمت به.

قبل دقائق من بدء القصف الصربي، كنت مستلقيا على أرضية الملجأ منهكا بعد يوم طويل من تغطية الحرب في البوسنة. وبالرغم من إدراكي أن القذائف في الطريق إلى الملجأ، فإن الرعب الذي أصبت به أصابني بالشلل.

كنت أتصبب عرقا من تحت القميص الواقي من الرصاص، كما كانت ضربات قلبي تصل إلى مسامعي. فجأة تحررت من قبضة الشلل الذي أصابني في نفس اللحظة التي أصاب صاروخ الملجأ. جلست على أرضية الملجأ محاولا التغلب على عتمته لتفقد أثار الدمار الذي أحدثه الصاروخ.

استغرق الأمر ثوان لأدرك أنني كنت نائما في فراشي بمنزلي الكائن في مدينة القاهرة، ومن أنني عدت إلى مصر منذ ثلاثة أيام. رقدت ثانية في الفراش وما زالت ضربات قلبي تصل إلى أذني عاجزا حتى عن أمسح العرق المتصبب من وجهي.

خلال الدقائق الأولى من هذه المكالمة التي استغرقت ما يقرب من الأربعين دقيقة، شعرت بحماسة شديدة لمجرد اكتشاف أن طفلا في ذلك العمر يقرأ ما أنشره.

من الواضح أنني كنت أعاني مما يسمي في الطب النفسي متلازمة ما بعد الصدمة كنتيجة لمستويات العنف غير المسبوق التي تعرضت لها أثناء تغطيتي الصحفية لحرب الإبادة في البوسنة على مدار ما يقرب من العام ونصف العام. وبالطبع، فإنني في ذلك الوقت في بداية التسعينيات لم أكن على علم بماهية متلازمة ما بعد الصدمة، ناهيك عن كوني أعاني منها.

وبالرغم من أن عقارب الساعة كانت تشير إلى السادسة صباحا، إلا إنني عجزت عن معاودة النوم حتى يحين موعد ذهابي إلى مكتبي في مقر صحيفة الأهرام المصرية الواقع في منطقة وسط القاهرة، حيث كانت تنتظرني سلسلة من الاجتماعات مع مسئولي الإدارة المالية للترتيب لاستئناف مهمتي في البوسنة.

بعد فترة من التحايل الفاشل على النوم العصي، ارتديت ملابسي وشربت فنجانا من القهوة قبل أن استقل سيارة أجرة ذاهبا إلى الصحيفة.

وحيث إنني وصلت مبكرا عن موعد وصول العاملين في الإدارة، فقد جلست إلى مكتبي أطالع صحف الصباح، وذلك قبل أن يطلب مني زميلي في المكتب المجاور أن أرفع سماعة الهاتف للرد على مكالمة.

ولوهلة، ظننت أن الشخص على الجانب الأخر فتاة، إلا إنني تداركت الأمر عندما سمعت الشخص على الجانب الأخر من الهاتف وهو يقول بصوت غاضب: أنا رجل ولست امرأة، واسمي محمد.

في تلك اللحظة أدركت أن المتصل -الذي عرف نفسه بالرجل كعادة الصبية في تلك المرحلة الحرجة من العمر- لا يعدو أن يكون صبيا لا يتجاوز عمره الثانية عشرة على أقصى تقدير.

أظهرت احتراما لمشاعر الصبي محمد مستمعا له، وذلك قبل أن يتحول مجرد الاستماع إلى الإصغاء. كان محمد يناقشني ما قرأه في بعض تقارير التغطية للحرب والتي نشرت لي مؤخرا.

خلال الدقائق الأولى من هذه المكالمة التي استغرقت ما يقرب من الأربعين دقيقة، شعرت بحماسة شديدة لمجرد اكتشاف أن طفلا في ذلك العمر يقرأ ما أنشره. إلا أن الحماسة باتت جارفة عندما علمت أن محمد أسس ناديا للقراءة مع بعض من أقرانه لمتابعة ما ينشر عن الشؤون العامة، بما في ذلك حرب البوسنة.

ولذا، لم أتردد في الموافقة على طلب محمد وصحبه في لقاء لمزيد من النقاش، حيث اقترحت عليه اللقاء في اليوم التالي في صحيفة الأهرام.

ولثواني قبل أن يرد على اقتراحي، احسست بأن محمدا وضع يده على سماعة الهاتف. كان واضحا أن عددا من أصدقاء محمد كانوا بجواره، وأنه كان يستشيرهم في الموعد.

إلا أن الصدمة حدثت بعد أن عاود محمد الحديث، حيث قال إنهم يفضلون أن يكون اللقاء خارج صحيفة الأهرام، بعيدا عن أيه احتمالات لرقابة من الأمن. كانت صدمتي عنيفة، فلم اتخيل أن يخشى صبية من السلطات الأمنية؛ فلا عمرهم ولا الشخص الذين يسعون للقائه ولا الموضوع الذي يريدون مناقشته تدعو لهذا التخوف.

ولذا، كان ردي حاسما: " ما هذا الكلام محمد؟ لا تخشي شيئا. سأنتظرك أنت وكل صحبك غدا في مكتبي".

بمجرد بدء النقاش، بات واضحا أن محمدا طفل مميز، ليس فقط بملامحه السامية الجميلة من شعر أسود كثيف وعينين شديدتا سواد المقلتين، وإنما أيضا كقائد للمجموعة.

صباح اليوم التالي، اتصل بي موظف الاستقبال في صحيفة الأهرام متعجبا من هؤلاء الصبية الذين يطلبون لقاء مراسل حرب الأهرام. على الفور، توجهت إلى الاستقبال، كي أفاجئ بستة صبية يتراوح أعمارهم بين 9-12 عام يتقدمهم محمد.

تملكتني سعادة غامرة واصطحبت هؤلاء الصبية -الذين سبقوا سنهم الصغيرة بالاهتمام بشأن دولي – إلى "كافيتريا" الصحفيين في الطابق الرابع في مبنى صحيفة الأهرام الواقع في شارع الجلاء.

لم تزعجني همهمات الزملاء الصحفيين الجالسين في "الكافيتريا"، وسخرية البعض منهم مما زعموه اكتشافهم أن مصادري لا تعدو أن تكون مجموعة من الأطفال.

بمجرد بدء النقاش، بات واضحا أن محمدا طفل مميز، ليس فقط بملامحه السامية الجميلة من شعر أسود كثيف وعينين شديدتا سواد المقلتين، وإنما أيضا كقائد للمجموعة. في الوقت ذاته، فإنه بمرور الوقت، اتضح لي أن هؤلاء الأطفال كانوا على دراية بأخر التطورات في الحرب، وذلك قبل أن يفاجأني محمد بما اتضح أنه الهدف الرئيسي للزيارة، وهو الهدف الذي كان صادما، فجاء الجزء الأخير من الحوار على النحو التالي:

  • "عمو" يحيى، واضح أنك تعرف مداخل ومخارج البوسنة وعاصمتها ساراييفو بشكل جيد بالرغم من الحصار الشديد.

الواقع أنني في الغالب ألجأ إلى طريقة مختلفة في كل مرة سواء في الدخول أو الخروج بمساعدة أصدقاء لي.

  • عظيم، ولهذا نريد أن نصاحبك في رحلتك القادمة. (قالها محمد وعلامات الجد تلوح على وجهه ووجوه أصدقائه، وهي الجدية التي أصابتني بالذهول)

لماذا؟ ولأي غرض؟

  • لكي ندفع الظلم عن المظلومين هناك.

قالها محمد بحماسة شديدة قبل أن يستعرض دوافع أخرى لطلبهم العجيب. خلال حديث محمد، حاولت التفكير في رد مناسب يرضي حماسة هؤلاء الصبية من دون أن يشعرهم بأنني استخف بهم بسبب أعمارهم الصغيرة.

ومن ثم بدأت حديثا طويلا استعرضت فيه الموقفين العسكري والأمني وموضحا أن الحصار الشديد يحرم البوسنويين من السلاح ومن أن ذلك سيؤدي إلى أن يكونوا عبئا على القوات البوسنوية في حال اصطحابي لهم، وذلك بدلا من أن يكونوا عونا.

بعد أن انتهيت من ردي، تدافع الصبية لاقتراح ما تصوروه مخارج من الطريق المسدود الذي وصفته لهم، وذلك قبل أن يسلموا باستحالة تلك الرحلة، وهنا كانت المفاجأة الثانية:

  • في هذه الحالة، فهل لك أن تأخذ هذا المبلغ من المال الذي كنا قد ادخرناه لهذه الرحلة؟ فطالما الظروف لا تسمح لنا بالذهاب، فلا أقل من أن نساهم بهذا المال في جهود إغاثة المستضعفين هناك. (قالها محمد وهو يمد يده بحقيبة جلدية).

ما قدر هذا المال محمد؟

  • أربعة ألاف وخمسمائة جنيه. (هالني ضخامة المبلغ بقيمة بداية التسعينيات وخاصة أنه مقدم من أطفال).

من أين حصلتم على هذا المبلغ؟

  • لقد ادخرناه على مدار العامين الماضيين.

هل أخذتم موافقة أولياء أموركم على هذا التبرع؟

  • كلا، ولماذا نأخذ موافقة على التبرع بأموال ادخرناها؟ (هكذا جاء ردهم بلهجة غاضبة).

أنا مصر على أن يأذن أولياء أموركم على هذا التبرع، وفى حال موافقتهم سأدلكم على منظمات إغاثة هي الأقدر على توصيل هذه الأموال إلى من يستحقونها.

بعد حوار دام أكثر من ثلاث ساعات، غادر أصدقائي الجدد من الأطفال الذين استشعرت فيهم رجولة ومروءة وشجاعة عزت علي كثير من الرجال. صحبت أصدقائي الجدد إلى البوابة الخارجية لمبنى الأهرام ووقفت أراقبهم في شارع الجلاء وقد توسطهم محمد.

الصدمة العنيفة التي صاحبتني منذ ذلك اليوم تمثلت في تفسير أفزعني فيما يتعلق بخوف هؤلاء الأطفال في اليوم السابق على اللقاء من فكرة الاجتماع معي في صحيفة الأهرام. فما هو القمع الذي رسخ في أذهان هؤلاء الأطفال

في تلك اللحظات تمنيت أن أعيش اليوم الذي يقود مصر محمد أو أي من صحبه. فبالرغم من صغر عمر هؤلاء الأطفال، فإنهم أظهروا علامات قيادة حقيقية مبكرة غابت عن مصر عشرات السنين. فعلى مدار عقود، نجحت الديكتاتورية في إصابة البلاد بالعقم سياسيا وذلك قبل أن تصيبها بالجدب اقتصاديا واجتماعيا.

إلا أن الصدمة العنيفة التي صاحبتني منذ ذلك اليوم تمثلت في تفسير أفزعني فيما يتعلق بخوف هؤلاء الأطفال في اليوم السابق على اللقاء من فكرة الاجتماع معي في صحيفة الأهرام. فما هو القمع الذي رسخ في أذهان هؤلاء الأطفال والذي دفعهم إلى الخوف من الذهاب إلى صحيفة – حتى وإن كانت مملوكة للدولة- لمثل هذا الهدف النبيل الذي حملوه؟

وبالرغم من أن هذا الموقف الدال وقع بعد ما يقرب من العام ونصف العام على بدء الصرب -بتواطئى مع ما يسمي المجتمع الدولي- حرب إبادة ضد مسلمي البوسنة، إلا أن علاقتي بصحافة الحروب بدأت قبل ذلك التاريخ وفى نفس منطقة البلقان. كانت البداية في العام 1991 مع بداية انهيار الاتحاد اليوجوسلافى. والغريب أن البداية كانت صدفة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.