شعار قسم مدونات

حزنٌ ويتمٌ متجدد في غزة!

المجاعة في رفح - حرب غزة
غزة بين فكي العدوان الإسرائيلي الغاشم (الجزيرة)

‎في فوضى النزوح وإرهاق الابتعاد عن الموت، وبين فكي هذا العدوان الجنوني، لم نستطع أن نخلد حكايا المتعبين، ولم يسمح لهم بالحزن بشكل كافٍ على ما أصابهم من آلام، وهم مجبرون على أن يستمروا في الحياة. سأذكر لكم واحدة من مليوني وثلاثمئة ألف قصة في مدينتي البائسة غزة.

في المرحلة الإعدادية، تعرفت على صديقتي غدير، وكانت البسمة لا تفارق وجهها، كثيرة الضحك والمزاح، وللحديث معها متعة لا توصف لخفة ظلها، وبعد التقرب منها أكثر، علمت أنها لا تذكر والدها أبدا! فقد استشهد وعمرها لا يتجاوز السنة. كانت تسألنا دائما: ما هو شعور أن يكون للإنسان أب؟ وما هو دور الأب الحقيقي في حياتنا؟ لكن إجاباتنا لم تكن شافية أبدا، إذ لم تعش قط ما كنا نحدثها عنه.

بعد سنة على تعارفنا، صرنا فيها صديقتين مقربتين، أخبرتني بإصابة والدتها بسرطان الدم، عرفت بالأمر فجأة، فكان مصابا جللا وصادما، وما هي إلا فترة حتى التحقت والدتها بوالدها

حرمان، لطالما حاولت والدتها أن تخفف وطأته، فسعت طيلة الوقت إلى تعويضها وأخوتها عن هذا الشعور، بتأدية دور الأب والأم في آن واحد، ولم تبخل يوما عليهم بشيء، بل غمر حنانها وعطفها أبناء المدينة.

‎وبعد سنة على تعارفنا، صرنا فيها صديقتين مقربتين، أخبرتني بإصابة والدتها بسرطان الدم، عرفت بالأمر فجأة، فكان مصابا جللا وصادما، وما هي إلا فترة حتى التحقت والدتها بوالدها، لتعيش حبيبتي غدير اليتم بكل صوره.

‎بعد هذه الأيام العصيبة مضى إخوة غدير كل في طريقه، فمنهم من سافر ومنهم من تزوج، وظلت غدير لوحدها بلا أب أو أم. تعثرت كثيرا وواجهت صعوبات لا تعد ولا تحصى، حتى أن ضحكتها التي اعتدناها راحت تبهت شيئا فشيئا، فكيف لقلبها أن يحتمل كل هذا الفقد؟ كنت أواسيها دائما وأذكرها بأن رحمة الله وسعت كل شيء، وأن السعادة ستأتيها في يوم ما، وأن الحزن لا يستمر إلى الأبد.

‎وبعد تخرجنا من الثانوية العامة، خطب غدير ابن خالتها أنس. فكان عوضها في الدنيا، مسح حزنها ورد إليها ضحكتها الجميلة وإشراقها. فأنس كان لها الأب والأم والأخ والصديق والحبيب، كان هينا ليّنا معها، تحبه ويحبها، أقام لها حفل زفاف من أجمل ما حضرت في حياتي، كانت بهية الحضور وكان أنس سعيدا بها جدا، والجميع يرقصون ويغنون ويدعون الله بأن يبارك لهما فرحتهما. ومنذ ذلك اليوم كلما تكلمت مع غدير تقول لي إن كلامي عن العوض لم يكن وهما، وأنه جاء حقا وكان أنس.

‎كانت غدير متشوقة لأن تبني عائلة جديدة مع زوج تحبه، وأن تنجب أطفالا تعيش معهم ما لم تعشه مع والديها، أن تجرب شعور العائلة أخيرا. وبالفعل، أكرمها الله وحملت بطفلها، لم تسع الفرحة قلبها وقلب أنس، حتى اشتريا بيتا جديدا، وخصصا غرفة لطفلهما القادم، واتفقا على أن يسميانه: ركان. ولأن غدير تهتم بالتفاصيل، جهزت كل ما يخص طفلها برفقة زوجها أنس، منذ الشهر الأول للحمل، وما إن دخلت شهرها التاسع، حتى بدأ العدوان الهمجي على قطاع غزة، هذا العدوان الذي لم يترك أحدا إلا أوجعه وسلب منه عزيزا على قلبه.

قدر الله أن ألتقي بها، بعدما نزحت إلى مكان قريب من منطقة نزوحي عقب شهرين من استشهاد زوجها، زرتها ورأيت طفلها، أسمته "أنس" تيمنا باسم والده الذي لم يره سوى مرة واحدة

‎ومع والانشغال بالنزوح ومحاولات النجاة، العدوان لم أنقطع عن التواصل مع غدير، وعلمت أنها على موعد مع ولادة وشيكة، وأنها مستعدة لهذه اللحظة هي وأنس رغم حرب، وبالفعل، أنجبت طفلهما الجميل، وغمرتهما سعادة لا توصف، وفي اليوم التالي لولادتها اتصلت بها لأسأل عن أحوالها وأحوال طفلها، ولأتأكد من اسم المولود الجديد، هل أسمته ركان أم غيرت رأيها؟ أجابتني غدير وقتها بجملة قصيرة فقط: "أنس استشهد".. أنس استشهد يا نور وعمر ابنه يوم!"، وأنهت المكالمة.

‎لم يستوعب عقلي ما قالته غدير، ابتلاء كهذا لم يكن صدمة، فحدوثه مع أي شخص متوقع في هذه الحرب، لا بل هو مأساة متكررة كنت قد شهدته في حياة الكثير من الأصدقاء، ممن استشهد آباؤهم وهم في أرحام أمهاتهم، ولكن هذه غدير! قصتها مختلفة، كيف يحدث معها هذا كله؟ لم أتوقف عن طرح الأسئلة وعن البكاء حزنا عليها، حبيبتي غدير، السعادة غدرت بها ولم تطل المكوث عندها، لتعيش الفقد واليتم مجددا، وبصورة أقسى.

قدر الله أن ألتقي بها، بعدما نزحت إلى مكان قريب من منطقة نزوحي عقب شهرين من استشهاد زوجها، زرتها ورأيت طفلها، أسمته "أنس" تيمنا باسم والده الذي لم يره سوى مرة واحدة، وأخبرتني يومها بوجه يعتريه كل الأسى: "هيني بعيش اليتم مرتين، مش عارفة كيف بدي أقدم لابني اللي أنا ما عشته؟ كيف أكون له الأم والأب وأنا أصلا ما جربت الشعور؟

‎كل الكلمات بعد هذا الفقد عبث، لكنني أعرف أنها ستعطي أنس الصغير كل الحب الذي حرمت منه، رغم الموت ورغم العدو الذي جرعه مرارة اليتم، ستكون له كل شيء، لأنها غدير ولأنها من غزة الحانية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.