شعار قسم مدونات

خمسة أشهر من الحرب

الاحتلال يكثف قصفه في الآونة الأخيرة لرفح جنوب قطاع غزة (غيتي)

كتبت هذا المقال وقد تجاوزت الحرب اليوم على غزة قرابة الخمسة أشهر، نقاشات هنا وهناك في دوائر العمل والجامعات وبين الجاليات المختلفة في ألمانيا على صراع المحتدم في الشرق الأوسط  يضطر المتناقشون لإجراء عملية موازنة حساسة بين التعاطف مع ضحايا المعاناة في كل من فلسطين وإسرائيل.

لطالما كانت ومازالت تلك  النقاشات حول هذا الصراع معقدة دائما بسبب التفكير المتحزب وانحياز كل معسكر لأفكاره وتبين هذا عدة مرات في إظهار التعاطف مع ضحايا العنف السياسي في إسرائيل، وفي الوقت نفسه التأكيد على معاناة الناس في قطاع غزة والضفة الغربية الذين يتحملون إلى حد كبير العبء الأساسي لكل المواجهات بين القوات الإسرائيلية والفصائل الفلسطينية وإن دل هذا فهو على فعل قائم على عملية توازن حساسة. لدرجة أنه ثمة شعور بين المغتربين هنا يلازمهم على الدوام بأنهم عابرون في تلك الحياة فلا بيوت أو مدن تنتمي في داخلهم وانطلاقا من هذا الشعور لا يجدون في هذا البلد أي مكان مستقرا لهم.

هذه النقاشات ليست وليدة اليوم ولا نستطيع نكران أن تلك النقاشات سواء في المؤسسات الأكاديمية كالجامعات الألمانية أو غيرها بدأت منذ اندلاع الحرب بل على العكس من ذلك فهي موجودة وكانت موجودة دائما حتى قبل تلك الحرب

منذ السابع من تشرين الأول لسنة الماضية أصبح تحقيق التوازن  بالنسبة للمواضيع المتعلقة بالصراع والعنف أكثر صعوبة بين الناس، وفي الوقت نفسه يبدو من المهم أكثر من أي وقت مضى بالاستعانة بالهدوء التحليلي في مواجهة المناقشات الاستقطابية والمجردة من الإنسانية والتي تصل حاليا إلى ذروة جديدة ومنعطف جديد في ألمانيا.

ذلك لأن هذه المناقشات الاستقطابية ترسم صورة عدوانية بين الجاليتين الفلسطينية والإسرائيلية باعتبار تلك الحرب صراعا عالميا يدور أساسا بين معسكرين متناحرين، المعسكر الأول يعتبر إسرائيل في المقام الأول أثر استعماري وإمبريالي غربي في المنطقة وممثلة لها وتفسر المقاومة ضدها كفعل تحرري مشروع، بينما يؤكد المعسكر الآخر على الطابع الديموقراطي للدولة الإسرائيلية في منطقة تتسم بأنظمة مستفردة بالسلطة وحقها غير المشروط في الدفاع عن النفس ضد التهديدات الوجودية.

هذه النقاشات ليست وليدة اليوم ولا نستطيع نكران أن تلك النقاشات سواء في المؤسسات الأكاديمية كالجامعات الألمانية أو غيرها بدأت منذ اندلاع الحرب بل على العكس من ذلك فهي موجودة وكانت موجودة دائما حتى قبل تلك الحرب ومع ذلك وعلى عكس الفترة السابقة تحولت الكثير من النقاشات إلى ساحات لمكافحة الهيمنة والتبعية.

 

بعيدا عن الرأي العام هنا والخاص هناك، فإن فعل المقارنة بين مشاعر الجاليات العربية والإسرائيلية لا تشكل المنطق. فلا ينكر أحد منا وخاصة نحن العرب أو المسلمين هنا في ألمانيا الكره التاريخي والموروث جيل بعد جيل.

وبسبب المخاوف من التعرض لإصدار أحكام مسبقة عند مناقشة المواقف المثيرة للجدل التي نادرا ما تكون ممثلة في وسائل الإعلام الحالية فإن جزءا كبيرا من النقاشات النقدية تجري حاليا بعيدا عن الأضواء، وهذا بسبب التخوف من وقوع سوء فهم موجود بشكل كبير هنا بين علماء الغرب والباحثين المسلمين أو بين الطلاب فيما بينهما، وبالمعنى الأصح الذين ينحدرون من أصول عربية فالطالما وضعوا باستمرار في موقف غير مريح يتمثل في وجوب أن ينأوا بأنفسهم بوضوح عن أعمال حركة حماس قبل أن يتم منحهم اعترافا بالخبرة وقبولهم كمتحدثين موثوق بهم، أضف إلى ذلك لا يزال يتردد في أذهانهم حتى اليوم صدى خطاب الرئيس الألماني فرانك فالتر شتاينماير في الثامن من  تشرين الثاني السنة الماضية، والذي دعا فيها الأشخاص ذوي الجذور الفلسطينية والعربية في ألمانيا إلى عدم السماح لأنفسهم بأن يتم استغلالهم أو تحريضهم للنقاشات تلك لعدم حدوث مهاترات تنتج عنها أعمال عنف لا يحمد عقباها.

يمكن أن نضع الجملة الأخيرة في حقل التضامن والتعاطف, فالتضامن والتعاطف ليسا بالضرورة أن يكونا ثابتين خصوصا مع مرور الوقت نشعر بشكل طبيعي بارتباط شديد مع باقي الجاليات بمختلف أشكالهم الدينية والسياسية.
ومن الوسط الأكاديمي كالباحثين الذين ليسوا من أصول عربية أو مسلمة يتردد عدد متزايد منهم بأسئلتهم وأجوبتهم لتلك الحرب في الرضوخ للمنطق البعيد عن العنف والعاطفة كونهم من منظورهم أن لا الحرب ولا التعاطف تستطيعان كسب الرأي العام بل هما ألعاب سياسية محصلتهما صفر ، أي لا منتصر فيهما ولا مهزوم تم تشكيلهم سياقا بشكل تدريجي مما أدى إلى تفجير هذا الكره كله بين تلك الجاليتين هنا في المغترب وبينهم هما الإثنين أيضا في الشرق الأوسط.

بعيدا عن الرأي العام هنا والخاص هناك، فإن فعل المقارنة بين مشاعر الجاليات العربية والإسرائيلية لا تشكل المنطق. فلا ينكر أحد منا وخاصة نحن العرب أو المسلمين هنا في ألمانيا الكره التاريخي والموروث جيل بعد جيل، قد يكون مكبوت في الداخل ولكن يظهر عفويا عند كل موضوع مشحون بكلمة غزة الحبيبة، يخرج من أفواه أصحاب الدم العربي استثنائيا بشعور لا يوصف من نواح مرتبطة عبر الأجيال تاريخيا وجغرافيا واجتماعيا وإنسانيا في المرتبة الأولى.

إسرائيل تعزز بشكل خاص الألم والكره بنفس اللحظة في ضمائرنا، مستغلة تلك الأخيرة حالة عدم التوازن الدولي, دافعة أجندتها قدما وداعية علنا إلى إعادة بناء المستوطنات غير قانونية في قطاع غزة المحتل.

وليس من غير المألوف أن نقف مع جهة تقتل الأطفال وتجوع العوائل ومتعارف عنها بإثارتها ردود أفعال عنيفة واسعة النطاق في غزة من خلال هجمات مسلحة بات الكل يعلمها ولا نقبل أن نكون على إستعداد لقبول هذه المعاناة حتى وإن كانت تعزز موقفها السياسي مع أميركا.
مثل هذه الأعمال اللاأخلاقية من قبل إسرائيل تعزز بشكل خاص الألم والكره بنفس اللحظة في ضمائرنا، مستغلة تلك الأخيرة حالة عدم التوازن الدولي, دافعة أجندتها قدما وداعية علنا إلى إعادة بناء المستوطنات غير قانونية في قطاع غزة المحتل، جاعلة الغزيين في حالة إنعدام تام للحياة مستنفرين عبر رحلة البحث الدائم عن الذات  بدءا من طوابير الخبز الطويلة للحصول على رقاقات من الخبز الذي لم يعد يخبز من الطحين وصولا لغالونات ماء البحر المالحة والمحلاة على الطريقة البدائية. رفعت الأقلام وجفت الصحف.

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.