شعار قسم مدونات

تعال أعلمك كيف تكتب قصص الرعب

أم ثكلى تتحسس رضيعها الميت نتيجة القصف الإسرائيلي في مشرحة مستشفى شهداء الأقصى في غزة (الأناضول)

"مقدمة لكتابة قصص الرعب" كان عنوان دورة تدريبية وجدتها على إحدى منصات التدريب الإسبانية، تعودت أن أكتب للأطفال عن الفرح والذكريات والمعرفة، وللكبار عن التجارب والتربية والحزن أحيانا، لكن الرعب جديد علي.
العبارة التشويقية للدورة أغرتني: "تعلم كيفية تحويل أعمق مخاوفك إلى قصص مقنعة ومرعبة ولا تنسى". فأنا لدي الكثير من المخاوف تزداد بازدياد ما عشت وأعيش من حروب وكوارث وغربة وفقدان، وكل رحلات العلاج لم تساعدني في تحويل تلك المخاوف لما هو مقنع ولا ينسى.

اشتركت بالدورة ودخلت بحماس، وللأمانة؛ بخوف أيضا، كنت خائفة من أن تعرض الدورة ما لا يحتمل قلبي من خوف ورعب فبدأت بحذر وتعلمت الآتي:

بداية كان علينا الاطلاع على نماذج مرعبة لنأخذ فكرة، فسردت المدربة مخاوف لطيفة ظننت معها أني أخطأت العنوان؛ أشياء تشبه لعب الأطفال: أشباح وغول ووحوش. وكيف لعربي يشهد ما يحدث الآن أن يخيفه شبح ووحش وغول وزومبي؟ ربما اختلاف ثقافات لا أكثر.

ثم عرضت من أعمال كافكا رائد الكتابة الكابوسية روايته المسخ أنموذجا. صعب ومرعب أن تستحيل حشرة ضخمة، لم نشهد كهذا. فقد شهدنا تحول مدينة إلى رماد وطفل إلى أشلاء لحم معبأة بكيس، وثياب إلى وقود تدفئة، وعلف حيوانات إلى خبز، أما تحول رجل إلى حشرة! مرعب فعلا.

لكل صوت سردي امتيازه وتفرده في رواية القصة سواء حدثنا بلسان العليم أو المراقب أو المتكلم، لكن خلاصة المفضل في قصص الرعب "الراوي المخاطب" لأنه يشعر القارئ (أو السامع) بالتهديد.

انتهى عرض النماذج لتبدأ الخطوة الثانية؛ تحديد المخاوف التي ستكون قصتنا. فقد تتشكل المخاوف من حكاية، ذكرى، خبر، حدث، كابوس، أو مشكلة اجتماعية. وذلك لنحصر بالضبط مخاوفنا حتى نتمكن من وضع مادة القصة.

بالنسبة لي: -أخاف أن أصرخ في منتصف الشارع "أولادي ماتوا بدون ما ياكلوا".

-أخاف أن أبحث عن ابني في المشافي وبين الجثث ولا أتقن وصفه فأقول: حلو.

-أخاف أن تتصل بي ابنتي من هاتف أحدهم وهي محاصرة في سيارة وقربها دبابة وحولها جثث وتستنجد بي: ليَّلت!

-أخاف أن يبح صوتي بعد تلاوتي لأيام كثيرة بصوت عالي لأخفف عن أطفالي صوت القصف.

-أخاف أن تكون أكبر أمنياتي أن نموت جميعا معا.

-أخاف أن يطلب ابني عنبا فأرد بحسرة: انسى الفواكه.

-أخاف أن تكون أكبر حملة تبرع أقودها؛ لصالح تهجير عزيز لي من وطنه فيعيش.

توقفت عن سرد مخاوفي التي لا تنتهي، لأتعلم الخطوة الثالثة؛ تحديد الراوي: ولكل صوت سردي امتيازه وتفرده في رواية القصة سواء حدثنا بلسان العليم أو المراقب أو المتكلم، لكن خلاصة المفضل في قصص الرعب "الراوي المخاطب" لأنه يشعر القارئ (أو السامع) بالتهديد. تماما كما حدث عندما سمعت الجد خالد يخرج من جيبه ويخاطبني: جبتلها كلمنتينا، غالي بس جبتلها، ثم يهدد: لن نحتفل بعيد ميلادي أنا وروح الروح بعد الآن.. أشعرني بالخطر! وكيف لي أن أعيش الخامس والعشرين من آخر شهر في كل عام دون تذكره يقبل عيونها المقتولة؟

عنصر العصيان وهو مرتبط بالشخصية العنيدة غالبا "الفلسطيني يعصي كل طواغيت الأرض ولا يقبل باحتلال أرضه "عنصر الذنب "كالشعوب العربية ترمي حبات البرتقال على شاحنة إغاثة عابرة قد تصل وقد لا"

حان وقت تحديد زمن الفعل في القصة كخطوة رابعة؛ رغم أن البعض يستخدم الماضي والحاضر معا لكن الحاضر للمبتدئين مثلي هو الأسهل والأعلى توترا، فكلما كان المشهد حاضرا مباشرا ساعد في خلق توتر عالٍ ومشاعر ذعر تحافظ على القارئ (أو المشاهد) على حافة الكرسي.

شاهد مثلا "ستوري الانستغرام" في حسابات قاطني غزة، حاضر ومباشر وأنت تشرب كوب الشاي ينقل بالصوت والصورة مشهد وجه طفل ممزق وانتشال قدمٍ من تحت الأنقاض، وطبيب يجري عملية بتر بلا تخدير، هل من توتر أعلى؟

مناسب جدا لقصص الرعب حيث الأجواء تولد لدى المشاهد (أو القارئ) الرغبة في تغطية عينيه وفي نفس الوقت التجسس عبر بسط أصابعه!

وصلنا إلى البداية: وأحد المظاهر الكلاسيكية للإرهاب هو البدء بقصة تبدو هادئة وبريئة، فأكبر المخاوف تأتي عندما لا نتوقعها.

كأن يأتي بلدك أناس غرباء ترحب بهم وتكرمهم وفق أصلك. ما أحلاها من بداية. ثم خلق جو مخلخل في مساحة السلام التي بدأت مع الاستعانة برمزيات كلاسيكية للرعب.

شخصيات عنيدة: مثل أهل فلسطين؛ لا يقبلون بالاحتلال ولا بسرقة أراضيهم ولا بالتعايش مع من يعتقلهم وينكل بهم، ما أعندهم.

وألفاظ وقحة تعكس العنف؛ مثل قول يعقوب: إذا لم أسرق بيتك سيسرقه غيري.

المطر والبرد أيضا عناصر كلاسيكية في قصص الرعب مثل خيم النازحين الغارقة بالطين وأصابع قدم طفل متجمدة.

الأضواء تسطع وتخفت مثل قنابل الفوسفور

ولغة الأرقام وهي أكثر عنصر أرعبني، خذ مثلا: بعد 140 يوما من الحرب تجاوز عدد الشهداء 30000 أغلبهم من الأطفال والنساء. ألم ترتعب؟

إليك المزيد لتكون قصة الرعب ممكنة ومقنعة أكثر تحتاج لثلاث عناصر مهمة:

عنصر العصيان وهو مرتبط بالشخصية العنيدة غالبا "الفلسطيني يعصي كل طواغيت الأرض ولا يقبل باحتلال أرضه "عنصر الذنب "كالشعوب العربية ترمي حبات البرتقال على شاحنة إغاثة عابرة قد تصل وقد لا". عنصر التعرض للخطر "كالحكام العرب تهتز كراسيهم مع كل صرخة استغاثة، ويسعون لإسكاتها بخطابات سلام".

إن الانتقام هو نهاية قوية لجذب النفوس التي لا تستطيع أن تجد الراحة في قصص الرعب، ولم أستطع أبدا تخيل نهاية تريح النفوس المذعورة في واقعنا المرعب، فبحثت في قصص أقوام خلت حتى وجدت ما فعل ربي بقوم عادٍ وثمود وفرعون حين طغوا في البلاد فصب عليهم سوط عذاب.

لا أدري إن كان الوقت قد حان فعلا للحديث عن النهاية لكنني مستعجلة، فبقدر ما أتجنب النهايات الحاسمة أثناء الكتابة للأطفال وأفضلها مفتوحة تحفز الخيال، بقدر ما استعجلت الوصول لنهاية قصة الرعب وشعرت برغبة ملحّة في جعلها محكمة الإغلاق، قيل إن الانتقام هو نهاية قوية لجذب النفوس التي لا تستطيع أن تجد الراحة في قصص الرعب، ولم أستطع أبدا تخيل نهاية تريح النفوس المذعورة في واقعنا المرعب، فبحثت في قصص أقوام خلت حتى وجدت ما فعل ربي بقوم عادٍ وثمود وفرعون حين طغوا في البلاد فصب عليهم سوط عذاب.

لا أتوقع أن خيال أي كاتب أو قارئ سيريحه في نهاية قصة رعب كما أراحني التسليم بأن ربي بالمرصاد. وينشغل بالك فواقعنا لا يكفيه تسطير روايات مرعبة فلمَ نكتفي بقصة؟

سأنقل الإجابة من كورتاثار باعتباره منظرا قصصيا: أخبرني كاتب أرجنتيني، مغرم بالملاكمة، أن الصراع الذي ينشب بين نص مشوق وقارئه غالبا ما تفوز فيه الرواية (بالنقط)، في حين ينبغي على القصة أن تفوز (بالضربة القاضية).

أختصر عليك الطريق؟

اكتب "غزة" ومبارك عليك الفوز "بالضربة القاضية".

 

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.