شعار قسم مدونات

الاقتصاد العالمي في مفترق طرق

أسعار الفائدة المرتفعة تؤثر على المستهلكين والمستثمرين والحكومات على حد سواء (غيتي)

يمر العالم بظروف اقتصادية مضطربة وشديدة التعقيد، من الحرب الروسية الأوكرانية والتي تحاول الولايات المتحدة استنزاف الاحتياطات الروسية المتراكمة "والتي كانت تقارب الـ 600 مليار دولار" في حرب عبثية، وتوترات مخيفة في جنوب بحر الصين، حيث تحاول الولايات المتحدة حصار الصين العملاق الاقتصادي الذي يتطور بسرعة تفوق تصورات صناع القرار في أميركا عن طريق تحالف كواد (أميركا -أستراليا-اليابان-الهند) مع منع تصدير الرقائق الاليكترونية المتطورة.

منذ السابع من أكتوبر 2023 الحرب الصهيو-أميركية على قطاع غزة وعلى فلسطين بغية تصفية القضية الفلسطينية والقضاء على المقاومة عن طريق إبادة جماعية ومحاولات تهجير الفلسطينيين وإحياء صفقة القرن عبر حلفاء إسرائيل والولايات المتحدة المخلصين في المنطقة العربية. كل هذه الأحداث المتسارعة المدمرة أتت والعالم لم يتعاف بعد من جائحة كورونا ذات الآثار الاقتصادية المدمرة.

صناع القرار في الولايات المتحدة في مرحلة إنكار أفول زمن القطبية الأحادية، والذي استمر أكثر من 20 عاما منذ سقوط الاتحاد السوفيتي في مطلع تسعينيات القرن المنصرم وإلى بدايات العقد الثاني من هذا القرن، العالم الآن أصبح متعدد الأقطاب بامتياز، فلدينا الاتحاد الأوربي رغم ضعفه الناتج عن تبعيته السياسية بالكامل للولايات المتحدة الا انه يشكل ثقلا اقتصاديا كبيرا ولدينا مجموعة البريكس بقيادة الصين و معها روسيا والهند وعملاق أميركا الجنوبية البرازيل، وقائدة أفريقيا دولة جنوب أفريقيا، هذا التكتل يحاول الاستقلالية وعمل تنمية مستدامة في عدة نماذج تختلف عن النموذج الرأسمالي الكلاسيكي الذي تتحالف فيه السلطة والقوة، ويقوم على استغلال موارد الدول الأخرى وتفريغ الديموقراطية من مضمونها.

العالم كله تقريبا يعاني اقتصاديا بشكل كبير وضاغط منذ أزمة كوفيد-19 ومن بعدها أزمة الخلل في سلاسل الأمداد والتوريد، والتي انعكست بشكل سلبي جدا على زيادة معدلات التضخم وبعدها الحرب الروسية الأوكرانية، والتي فاقمت الأزمة وعمقتها بزيادة كبيرة جدا في أسعار الطاقة "النفط والغاز والكهرباء" وأسعار الحبوب والغذاء وكلفة الشحن والتأمين.

فبالنظر إلى ميكانيزمات صناعة القرار السياسي والاقتصادي في الولايات المتحدة التي تحاول جاهدة التشبث بالهيمنة عبر تغذية الصراعات وسيطرة الشركات العابرة للقارات ودعم ديكتاتوريات موغلة في الدموية والعنصرية، وتمويل ودعم الانقلابات العسكرية (إيران-تشيلي-الأرجنتين-تركيا-مصر-البرازيل) والعديد من النماذج في القرن الماضي وبدايات القرن الحالي. نجد أن انتخاب المشرعين في الكونجرس بمجلسيه النواب والشيوخ يرتكز في المقام الأول على دعم وتمويل ضخم جدا بمئات الملايين من الدولارات وتجاوز المليار منذ انتخابات هيلاري كلينتون ودونالد ترمب، وجو بايدن ودونالد ترمب. هذه الحملات السخية من شركات لها مصالح عديدة سواء داخلية على مستوى الولايات (مجلس النواب) أو خارجية الرئاسة ومجلس الشيوخ وهذا الأنفاق السخي يعتبر نوع من الاستثمار في سياسيين ليسوا فوق مستوى الشبهات (سيناتور بوب مينينديز رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ مثالا فجا).

العالم كله تقريبا يعاني اقتصاديا بشكل كبير وضاغط منذ أزمة كوفيد-19 ومن بعدها أزمة الخلل في سلاسل الأمداد والتوريد، والتي انعكست بشكل سلبي جدا على زيادة معدلات التضخم وبعدها الحرب الروسية الأوكرانية، والتي فاقمت الأزمة وعمقتها بزيادة كبيرة جدا في أسعار الطاقة "النفط والغاز والكهرباء" وأسعار الحبوب والغذاء وكلفة الشحن والتأمين، وأتت الحرب الهمجية الإسرائيلية على قطاع غزة وتطوراتها التي انعكست على الملاحة في البحر الأحمر، هذه التطورات السلبية جعلت معظم دول العالم تعاني اقتصاديا. وطبقا للبنك الدولي في أحدث عدد يصدره عن تقرير الديون الدولية في ديسمبر 2023 أن البلدان النامية أنفقت مستوى قياسيا بلغ قرابة الـ ٤٤٤مليار دولار لخدمة ديونها العامة الخارجية والمضمونة من الحكومة في عام 2022، وذلك في خضم أكبر قفزة تشهدها أسعار الفائدة العالمية على مدى أربعة عقود. وأضاف التقرير أن ارتفاع تكاليف هذه الديون أدى إلى تحويل الموارد "القليلة أصلا" بعيدا عن الاحتياجات الحيوية مثل الصحة والتعليم والخدمات الأساسية والبيئة والتغذية. أدى ارتفاع أسعار الفائدة إلى تفاقم المخاطر المتعلقة بالدين في جميع البلدان النامية، ففي الثلاثة أعوام الماضية تخلف 18 بلدا ناميا عن سداد ديونه السيادية، وهو عدد أكبر من المسجل في الـ 20 عاما الماضية مما ينذر بكوارث اقتصادية تهدد الأمن والسلم الدوليين.

 

الوضع الاقتصادي المخيف أدى لازدياد معدلات الفقر بشكل كبير، لأن مدفوعات الفائدة تستهلك نسبة كبيرة ومتزايدة من صادرات البلدان منخفضة الدخل مما يجعل أي خطط تنمية مستدامة في هذه البلدان دربا من دروب الخيال.

هذه الكوارث الاقتصادية بدأت منذ الأزمة المالية العالمية 2008، والتي كان السبب الرئيسي فيها جشع المؤسسات المالية الأميركية وضعف الرقابة والتشريعات المالية في فترة الرئيس جورج دبليو بوش والتي كان السبب الرئيسي فيها ضغوط كبيرة من هذه المؤسسات المالية العملاقة التي تمول حملات انتخابية لأعضاء الكونجرس بمجلسيه وكذلك الحملات الرئاسية، وحينما حدثت الكارثة في 2008 قام الرئيس أوباما بدعم الشركات المنهارة وطباعة تريليونات الدولارات، ومن بعده الرئيس ترمب الذي طبع تريليونات أخرى لمواجهة آثار الاغلاقات الناجمة عن أزمة كوفيد-19، مما أدى لحدوث تضخم كبير وتم تصديره لكافة دول العالم المأزومة، وقام الاحتياطي الفيدرالي برفع أسعار الفائدة للسيطرة على هذا التضخم مما جعل معظم رؤوس الأموال تفضل الاستثمار في الولايات المتحدة، الأمر الذي أدى إلى وضع عجيب في العالم، حيث أن الولايات المتحدة سبب التضخم بسياسات عرجاء غير منتجة وتقوم بطباعة دولارات لتغطية عجوزات غير مسبوقة تاريخيا (يبلغ الدين العام الأميركي أكثر من 33 تريليون دولار و يزداد يوميا بأكثر من 3 مليار دولار) ويتجاوز125٪ من الناتج القومي الأميركي.

هذا الوضع الاقتصادي المخيف أدى لازدياد معدلات الفقر بشكل كبير، لأن مدفوعات الفائدة تستهلك نسبة كبيرة ومتزايدة من صادرات البلدان منخفضة الدخل مما يجعل أي خطط تنمية مستدامة في هذه البلدان دربا من دروب الخيال. وعلى العكس تماما فان الاقتصاد الأميركي يسير عكس التيار بفضل تدفق معظم رؤوس الأموال للولايات المتحدة بحثا عن أسعار فائدة أعلى، ما يسهم في حل مشكلة البطالة ورفاهية المواطن الأميركي على حساب رفاهية معظم دول العالم وهو وضع غير عادل وينبغي تغييره.

 

الحلول على مستوى الشعوب تكمن في تشجيع المنتجات المحلية ودعم الشركات الوطنية عوضا عن الشركات المتعددة الجنسية والعابرة للقارات، التي تحاول تنميط المجتمعات العربية والنامية على نمط حياة استهلاكي يعزز التبعية ويقضي على أي آمال تنموية.

آفاق الحلول

الحلول للدول النامية وفي القلب منها الدول العربية والدول الساعية للتحرر وعمل خطط تنمية مستدامة تكمن في الاستثمار في رأس المال البشري وتقليل الاعتماد على الشركات العابرة للقارات ومحاولة تقليل الفجوة العلمية والتكنولوجية عن طريق نقل الخبرات والمعرفة وليس استيراد المنتجات النهائية من الدول الرأسمالية، فتجربة البرازيل في إنتاج طائرات مدنية، وتركيا في انتاج المسيرات جعلت للدولتين ثقلا مؤثرا داعما للصادرات وتقليل للواردات، وخلقن المزيد والمزيد من فرص العمل.

حينما نقارن في صناعة النفط والغاز بين حقلي سكاريا التركي (يبلغ الاحتياطي فيه ١٧ تريليون قدم مكعب)، وحقل ظهر المصري وهو يعتبر من أكبر حقول الغاز في العالم (يبلغ الاحتياطي ٣٠ تريليون قدم مكعب). نجد أن نصيب تركيا من الغاز من حقل سكاريا أكبر من نصيب مصر لأنه بعد خصم حصة الشريك الأجنبي والمصروفات المرتبطة بالاستكشافات تتضاءل حصة مصر، وذلك لأن الشركة التي قامت بالاستكشاف والإنتاج شركة تركية، هذا بالإضافة لتوفير الكثير من فرص عمل وطنية وتحقيق وفورات في العملات الأجنبية.

الحلول على مستوى الشعوب تكمن في تشجيع المنتجات المحلية ودعم الشركات الوطنية عوضا عن الشركات المتعددة الجنسية والعابرة للقارات، التي تحاول تنميط المجتمعات العربية والنامية على نمط حياة استهلاكي يعزز التبعية ويقضي على أي آمال تنموية.

والتعاون بين صناع القرار في الدول العربية والنامية الطامحة للاستقلال الاقتصادي ومحاولة ردم الهوة الاقتصادية بين دولنا "التي تم افقارها عمدا بالاستعمار وتكريس التبعية وتقويض حكم القانون" وبين الدول الغربية، يقتضي تعاونا بين صناع القرار والشعوب وتشجيع الصناعات الصغيرة والصادرات ودعم المنتجات المحلية ومكافحة الفساد على كافة الأصعدة.

إن تكتل الكثير من الدول والشركات الغربية ضد الحق والعدل والمساواة والحرية في قطاع غزة يجعلنا نستفيق ونبدأ الاعتماد على أنفسنا وعدم الانسياق وراء الرأسمالية الغربية المدمرة والتي تكرس للتبعية.

وقديما قالوا إن رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة فهل من مجيب!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.