شعار قسم مدونات

زمن الخيول السوداء!

غلاف كتاب زمن الخيول البيضاء
غلاف كتاب زمن الخيول البيضاء (الجزيرة)
  • "أنا لا أقاتل كي أنتصر، بل كي لا يضيع حقي." إبراهيم نصر الله

انتهيت قبل قليل من قراءة رواية المبدع إبراهيم نصر الله ( زمن الخيول البيضاء)، والتي تحكي النكبة الفلسطينية من خلال عائلة فلسطينية وحيدة على مدار عدة أجيال متتابعة، وكيف رأوا الأحداث وكيف غيرت فيهم وكيف عاشوها بتفاصيلها الدقيقية من خروج الأتراك سنة 1917م ودخول المصريين وحرب الاستنزاف ودخول الصهاينة قرية الهادية .

بانتهاء القراءة فقدت أشخاص وأماكن وأحداث، كأني عشت بينهم كواحدا منهم، الحاج خالد، والأنيسة ومنيرة والعزيزة وإيليا راضي، وناجي، والمضيافة.

رواية جميلة تأخذنا إلي داخل البيت الفلسطيني، لترى تفاصيل حياتهم اليومية وتعلقهم الشديد بالخيول وتربيتها، وعادة الأصالة والشهامة والرجولة والنخوة والغيرة، كل هذه الصفات تتجلى واضحة آمام عينيك من خلال سرد مشوق جميل، ممزوج بالدم والنار والمآسي التي عاشوها على مر العصور.

بانتهاء القراءة فقدت أشخاص وأماكن وأحداث، كأني عشت بينهم كواحدا منهم، الحاج خالد، والأنيسة ومنيرة والعزيزة وإيليا راضي، وناجي، والمضيافة. وكلما تذكرت الحاج خالد محمود ومن قبله الحاج محمود وكم كان ارتباطهم وثيقا بالحمامة (حصانتهم البيضاء) وعالم الخيول، وكم كانت العادات والتقاليد هي الضمانة الوحيدة لإرثاء العدل والقيم في المجتمع الريفي البسيط أنداك، أتذكر الآن ما وصلت إليه مجتمعاتنا من المدنية الزائفة وغياب قيم العدل والمساوة واحترام الكبير.

الهادية، القرية البسيطة التي وقف أصحابها الفلاحون في وجه القيادات العربية والأتراك واليهود والإنجليز، لتثبت للجميع أن للأرض أصحاب ولهم فيها جذور، ووصف القرية وترابط أهلها ذكرني بقريتي الصغيرة في جمهورية مصر العربية، وكيف حول العمران الزاحف ملامح وشكل بيوت القرية، بل وعادات أهلها.

"لم نكن نعرف الخوف أبدا، تسألني لماذا؟ لأننا كننا على يقين من أن الروح التي وهبنا إياها الله، هو وحده يستطيع أن يأخذها، وفي الوقت الذي حدده الله، لا الوقت الذي حدده الانجليز أو أي مخلوق على الأرض" اقتباس من الرواية

بالطبع ليس هذا هو حال قريتي فقط وإنما هذا توجه عام، وتتدخل سافرلتحويل قرى الريف الجميل إلى مدن قلبها حجر. ولو سألتك الآن عزيزي القارئ : هل تتذكر شكل وملامح قريتك الصغيرة، وكيف تحولت إلى نصف قرية ونصف مدينة لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء. وكيف حول هذا العمران والبنيان أخلاق الرجال.

يخجل المرء من الحديث عما يدور في غزة الآن، والموقف الخانع للجار والصديق، وكيف تخلوا عنها. ولم تحركهم أخوة ولا عروبة ولاحتى إنسانية، بل جلسوا يشاهدون موتهم كل يوم ولا يحركون ساكنا

يبدو أن التغيرات لم تحدث فقط في المباني والزحف العمراني ولكن هناك تغيرات جذرية حدثت في الشخصية العربية، عادات الأصالة والشهامة والفزعة للغريب والضيف وحب الجار والصديق لم تعد كما كانت، وهذا ظهر جليا في الحرب على غزة الآن.

أكثر من 5 شهور من القتل والتجويع والدمار الشامل للإنسان والعمران في قطاع غزة وتشريد أكثر من مليوني إنسان، وعائلات بأكملها أبيدت على يد أقذر من عرفتهم البشرية، في ظل تكدس الشاحنات بالمساعدات الإنسانية على الحدود تنتظر إذنا من محتل بغيض جبان للدخول.

يخجل المرء من الحديث عما يدور في غزة الآن، والموقف الخانع للجار والصديق، وكيف تخلوا عنها. ولم تحركهم أخوة ولا عروبة ولاحتى إنسانية، بل جلسوا يشاهدون موتهم كل يوم ولا يحركون ساكنا. وكيف تكالبت على غزة المدينة الصغيرة المليئة بالحياة كل الدول والجيوش العظمى لتقاتل عدة آلاف لا يملكون إلا أدوات بسيطة محلية الصنع يدافعون عن أنفسهم بها.

أصبحت جنوب أفريقيا والبرازيل أقرب وأحرص على حياة أهل غزة، من الأردن ومصر الجارتين المسلمتين العربيتين، أي مقارنة بين جيل الخيول البيضاء وهذا الجيل هي مقارنة ظالمة، لأنك تقارن عناصر غير متجانسة، كأنك تقارن الذهب والفضة بالخشب والحجارة.

لقد رزقني الله زيارة غزة مرتين ورأيت بعيني سكانها وعايشتهم عن قرب، وحرصهم على الصلاة في المساجد كان ملفتا، وإتقانهم لقرائه القرآن كان آسرا للقلب،  كما كرمهم السخي. وعندما تتذكر الرواية بأحداثها وتفاصيل شخوصها تشعر أن هؤلاء وهؤلاء خرجوا من معين واحد.

الموقف العربي المتخاذل المنهزم نفسيا يشعرنا بالقلة والقزم،  كيف لدول لها تاريخ وحضارة وشعوب كبيرة أن تترك جيرانها يتضوعون جوعا وعطشا ولا تستطيع إدخال الاف الشاحنات المحملة بالمساعدات الإنسانية البسيطة لأهل غزة اخوتهم في العروبة والإسلام والإنسانية؟ إنه حقا زمن الخيول السوداء.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.