شعار قسم مدونات

إنها رائحة الدم!

المجاعة في رفح - حرب غزة
إني أوقن أن حتى الهمسات الخارجة من قلب موجوع لها مفاعيل في تحديد مخرجات أية حالة صراعية فيها استخدام مفرط للعنف وأدوات القتل بدم بارد (الجزيرة)

تتسلل رائحة الدم كل ثانية، في كل ركن، تفوح منها حكايات الألم والخسارة، وتحمل في طياتها أحلام الأطفال المحطمة وأماني الشباب المتقاطعة بفعل الدمار والفقدان. تحكي قصص الأمهات اللاتي فقدن أطفالهن والآباء الذين فارقوا عائلاتهم. يذكرني المشهد برواية "ماكبث" لشكسبير، حيث يستخدم الدم كرمز للجريمة والاستبداد، فيظهر الدم على يدي ماكبث كرمز للجريمة التي ارتكبها. وآخر في رواية "عائلة آورورا" لجوانا روس، تظهر فيه الدماء كرمز للعائلة والموروث، مشهدان متناقضان أحدهما يجسد رئيس الولايات المتحدة الأميركية مع حكومة نتنياهو وكل الداعمين له، والآخر يجسد قدسية الأرض والعقيدة عند الفرد الفلسطيني حيث الدم يفقد طبيعته السائلة ليغدو وردا يتفتح على جبين كل شهيد، هل شممته؟ إن كنت قد فعلت، إذا مازالت حاسة الشم (الإنسانية) لديك بخير.

تحت وطأة الاحتلال عموما، أزمنة السلم لا تختلف كثيرا عن أزمنة الحرب، الدماء مسفوكة وأرواح الشهداء مرفوعة؛ الفارق الوحيد هو أن أزمنة الحرب تقترن بدكتاتورية همجية معلنة بقصد إيقاع أعظم قدر من الرهبة في المناوئين والمقاومين الباحثين عن مشهد الحرية

في ظل هذا السياق الإنساني، يتجلى أثر الرائحة بشكل خاص في خبايا الذاكرة. ليذكرنا بأن الضحايا ليسوا أرقاما إحصائية بل أفرادا عاشوا في مجتمعاتهم، وأن كل نقطة دم فاحت ترتبط بحياة وحكاية وأحلام وعلاقات مترتبة عنها. يتعين علينا أن نتذكر هذه الرائحة كلما نظرنا إلى تلك الصور المدمرة والأحداث القاسية، وأن نسعى بجد، كل بقدر وسعه ومن مجال قدرته للمساهمة في رفع ظلم أو حفظ نفس أو إعمار أرض.

الحقيقة أنه تحت وطأة الاحتلال عموما، أزمنة السلم لا تختلف كثيرا عن أزمنة الحرب، الدماء مسفوكة وأرواح الشهداء مرفوعة؛ الفارق الوحيد هو أن أزمنة الحرب تقترن بدكتاتورية همجية معلنة بقصد إيقاع أعظم قدر من الرهبة في المناوئين والمقاومين الباحثين عن مشهد الحرية، بارتكاب جرائم واستعراضات قبيحة مستهجنة؛ أما دكتاتورية أزمنة السلم فملساء ناعمة كما الأفعى التي تنسل بين أكوام التبن، تشهدها الشعوب المقموعة، في حين تغيب حقيقتها عن المشهد العام. والولايات المتحدة الأميركية هنا هي المثال الأجلى في عصرنا للدولة الدكتاتورية ذات الصبغة العالمية. تعاقب من تشاء بغير حساب تحت غطاء القوانين الدوليّة، وتجزل العطاء لمن تشاء بغير حساب أيضًا تحت شعار "حق الدفاع عن النفس". متجاهلة أن القوة لابد وأن تؤول إلى ضعف، والقدرة تؤول إلى قصور، والطغيان نهايته البور. في الوقت الذي كان يزعم فيه أن كل شيء في الغرب -على العكس من بلادنا- محسوب بقانون، تسوده العدالة.

يحضرني هنا حديث بيجوفيتش عن الحرية حين عرفها بأنها "ليست هبة، بل هي النتيجة الطبيعية للتضافر الجماعي والتلاحم الإنساني"، كيف أسقط بتعريفه هذا مفهوم الحصار والاحتلال الخانق عن الغزيين بتلاحمهم وتماسكهم أمام حرب ليست كسابقتها من الحروب، ليظهرنا جميعا -شعوبا كنا أو حكاما من دكتاتوريي الشرق الأوسط وأميركا اللاتينية وأفريقيا وجنوب شرق أسيا- كدول غشماء تعوزهم الحرية بالقياس إلى الغزيين في الربوع المحكومة بالسياقات الاستعمارية. غشماء لأن حكامنا من جهة قايضوا أمن وسلامة بلدانهم بديمقراطية شكلية لا تفيدهم، ومن جهة أخرى بالغوا في مد أذرع دكتاتوريتهم الثقيلة إلى تفاصيل حياتنا كأفراد وجماعات في حين لم نستطع نحن أن نرفض أو نقاوم، بل واكتفينا بلعنهم خفية ومتمنين زوالهم.

نكران الحقيقة أو الفرار منها لن يفيد، مثلما أن التعالي عن رؤية الواقع تحت لافتة فردانية متسربلة بمقولات فلكلورية لن يفيد أيضا.

ربّما تظن أنك لست معنيا بالمشهد بل ولست مرغما على ملء رئتيك برائحة دم الشهداء، إلا أن مقدارا منه لا ينفعهم بقدر ما ينفعك أنت، يديم الحياة لقلبك أنت، يبقي صحوتك، ويدفع عنك غفلتك، وإني أوقن أن حتى الهمسات الخارجة من قلب موجوع لها مفاعيل في تحديد مخرجات أية حالة صراعية فيها استخدام مفرط للعنف وأدوات القتل بدم بارد.

إنه الإيمان، "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان". نكران الحقيقة أو الفرار منها لن يفيد، مثلما أن التعالي عن رؤية الواقع تحت لافتة فردانية متسربلة بمقولات فلكلورية لن يفيد أيضا. ثم أخبرني عن فضاء واحد لم تصل إليه (أو لا تكاد تشم فيه) رائحة الدم. وبعد أكثر من مائة وثلاثين يوما من العدوان، كل هذا العالم مشبع تماما برائحة الدم النفاذة، التي قد تحيي وتميت بعض البشر وليس جميعهم على كل حال.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.