شعار قسم مدونات

قُتل أصحاب الأخدود!

يضبط المؤمنون دقات قلوبهم على الموعد مع الله (مواقع التواصل)

"قتل أصحاب الأخدود"، هذه السورة نضرة حروفها، تفيء إليها روح بلال، وسمية، وعمار، وكل الذين احترقوا من بعد. ففي حضن هذا اللحظة؛ تاريخ أمم من "الذين آمنوا وعملوا الصالحات".

صوت روي، يحكي لك القصة؛ ثم يقول لك "والله من ورائهم محيط"، فتبرأ الروح من جراحها، ويقترب منك الصوت "إن بطش ربك لشديد"، فترى في الأفق موجة. يغيب الحطب، وتصبح قاب قوسين أو أدنى من صوت الماء في الجنة.

ينشئ القرآن لك البوصلة، ويلغي لك فوضى التفكير؛ إذ يعلنها "وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد".

"إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار"، يالصوت الأنهار في ظمأ الغربة، كيف ترتدي الكلمات هنا: رعشة الجمال في وسط الحريق.

يا لله، ثمة عرس سماوي؛ يتوهج في رماد الشهداء، وتضحك أطيار الجنة وينجو الشهداء رغم الأخاديد ورغم القبور.

هنا، ينشئ القرآن لك البوصلة، ويلغي لك فوضى التفكير؛ إذ يعلنها "وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد".

هنا، نهاية الأسئلة، حيث الحقيقة لا تصالح مع الذين يحملون للحق المعاول، أو يحفرن الأخدود عميقا، وتهيء للمآقي مشاهد الدموع، لتنتقل أم بطفلها من بقعة ذاوية؛ لأخرى خاوية، عل النجاة تكون بينهما.

تضمه بهلع، وتستجيب لما تبقى من الحياة بنظرة فاترة، يتقاذفون الحطب؛ فتشرد عين أب ناحية صغيره، ويخوض اللهب في قلبه ويتهافت الموت من كل ناحية، تومض النار بقوة؛ فيجف الملح في الحلوق، وتكف الذاكرة عن النبض.

يتعثر في سقوطه، وتدفعه يد تائهة إلى "النار ذات الوقود"، وترتعش الشمس، وتود لو أنها تتوارى عن وجه الظهيرة؛ لأجل أن ترحمهم. يسقطون؛ فيقتسمون إرث النجوم ويحلقون.

يسقطون؛ فيزدحمون بالنعيم، وتحط فراشات الجنة عند كل كلمة من السورة، ويبتسم النعيم "ذلك الفوز الكبير".

تسافر الملائكة إليهم؛ مثل أسراب الفرح، تنزع عنهم ثياب الفقد، ويهدهدون صغيرا؛ تعثرت به أمه في "النار ذات الوقود". وبين عثرتها وبين تأرجح الصغير في قلبها؛ قرار أم أن ينتهي خيال أحلامها عند الله.

يراها الطغاة، فيبقون متبعثرين، كيف تقذف بنفسها في النار، وعلى طرف العباءة، طفل ينهمك في السلام، كأنه في بستان زهور.

فسر لي: لماذا يبتسم الشهداء وهم ينزفون، حتى كأن الجنة قائمة على الشفاه تغني؟!

تتقد النار، ويتوالى المغيب مع كل روح تشهق في الحريق، ويتأوه الألم، ويقف الزمان منذهلا، أكان هذا عبورا للغوغاء.

كانوا هم "قعود"، بصيغة المبالغة، التي تعني الإصرار والثبات على الفعل الظالم، فتنبه ولا تتنازل واقعد على الحق قعودا.

يرتفع الدخان، ويضبط المؤمنون دقات قلوبهم على الموعد مع الله، وإن غياب الله عنك هو اتقاد الجمر في الحياة، والصلة به، هي انبثاق زمزم بعذب الأمنيات.

فيا لله، كيف يصبح كل قلب فيهم قطرة ندى، كل عين تبكي هي زحمة سحاب، تنساب بالمطر، فينطفئ بها الجحيم.

ليس من خطوة تائهة بين الجموع، فقد أحبت الأقدام طريقها.

وكانوا هم "قعود"، بصيغة المبالغة، التي تعني الإصرار والثبات على الفعل الظالم، فتنبه ولا تتنازل واقعد على الحق قعودا.

"إذ هم عليها قعود * وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود"، شهود على زبد الوجوه إذ يموج ويفور.

"وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود"، شهود على لحظة ذوبان طفل في البركان.

"قعود"، وأنين الحطب يعلو، كأنه روح الطبيعة يبكي فقر الإنسان، يبكي من اعتادوا الظلام.

ثمة تشابه بين أصحاب النار، وعذاب النار، كلاهما تسكنه العتمة.

في قاصية من اليمن كانوا، كتبت ذكراهم بحبر السماء، فقد قدموا محاق الأعمار لله صداق.

في الرحلة إلى الحريق، لم يكن الصدى قويا، لم يسمعه الناس، لأن صخب النار كان عالي، وحين همدت، كانت أحرف الحكاية تسكن في اللوح المحفوظ، وتتلى إلى يوم القيامة.

لو يعلمون أن النار كانت دافئة، ومع أول تماس بها، شعت الجنة بضحكة ملنة، وانتهى العذاب، "الذي له ملك السماوات والأرض والله على كل شيء شهيد"،  شهيد على سجود الروح عند البوح لله، بالحب على أناته.

شهيد على من كان يلهث بالشوق لله، على من كان يبوح لله بملء وحدته، بملء اغترابه، شهيد على الآفاق، تحفظ صوت قسوة النار وهي تسكت ترتيل الشهداء.

شهيد على رقصة روح على الجرح، إذ صار النعيم لها يلوح، شهيد على الرؤى تهطل من الغيب عليهم.

شهيد على الملائكة تقطف أروحهم وتطير بها، يصبح كل واحد منهم زمن فوق الأزمان، وخلود لا منتهى له.

هيبة. يعرفها الشهيد، حتى أنه يشتهي بعدها الاحتراق لله ألف مرة، "إن بطش ربك لشديد * إنه هو يبدئ ويعيد * وهو الغفور الودود * ذو العرش المجيد * فعال لما يريد"

في الكون أمكنة مخفية، لا يلمسها إلا من كانت أعمارهم قرابين لله. كانوا "قعود" على النار، كل شيء في الأخدود معتم، يمتلئ بأسرار محرمة على الظالمين، أسرار تقي المؤمنين حر الجحيم.

أسرار من معانيها، "لا خوف عليهم ولا هم يحزنون"، "والسماء ذات البروج * واليوم الموعود * وشاهد ومشهود"، بكل هذا الاتساع في القسم، بكل هذا العمق في الشاهد، يرتد جواب القسم إلى الجمرات المشتعلة في الأخدود، ويصبح المحترقون، مصابيح المشهد.

يلتحفون بوعد الله، "قتل أصحاب الأخدود"، يذيب لهم كل الرهق، ويحظون بهيبة الروية.

هيبة. يعرفها الشهيد، حتى أنه يشتهي بعدها الاحتراق لله ألف مرة، "إن بطش ربك لشديد * إنه هو يبدئ ويعيد * وهو الغفور الودود * ذو العرش المجيد * فعال لما يريد"، اسمح لصوتك أن يرتاح على الكلمات. تأملها بسكينة، ودعها تطول في عينيك.

وردد "فعال" بصيغة المبالغة، ثم ارجع على أول السطر، وكرر "إنه هو يبدئ ويعيد"، وأسند بها إيمانك.

وقل كلما رأيت ضفاف الجمر تشتعل: سيطلع من العتمة قمر ونجمة.

قدر الشهيد، أن يكون لنا الدليل في زمن المتاهة، مهجور في السماء، من علق برمال الأرض وانتثر عليها.

مهجور في السماء، من احتضر في رحاب السراب، ومات دون أن يدري عن أنهار الجنة شيئا.

مهجور في السماء، من كان كفن الحقيقة، ولم يكن عمره كله لله، لافتة ودليلا، ومذكور في اللوح المحفوظ، كل من احترق عمره لله.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.