شعار قسم مدونات

شعر أبي فراس.. مِنةُ ابن خالويه على الأدب العربي

رسمة تخيلية لأبو فراس الحمداني (مواقع التواصل)

لا شك أن شعر أبي فراس الحمداني ظلم كثيرا وأهمل، ويرجع الأدباء ذلك إلى انتشار ذكر المتنبي، حيث عاصر المتنبي أبا فراس، وكان المتنبي في حاشية سيف الدولة ابن عم أبي فراس. فطغيان صيت المتنبي منع شعر أبي فراس من أخذ حقه في الانتشار.

لما توفي أبو فراس في شبابه (عام 357 ه)، تألم شيخه ابن خالويه الحسين بن أحمد (توفي عام 370 ه)، فأخذ على عاتقه جمع شعر تلميذه الراحل

كان ذكر المتنبي -وهو حي- على كل لسان، فافتتن الناس به كثيرا إلى درجة لم يصل إليها شاعر، فكان الخطباء يستشهدون بشعره على المنابر، وكان المغنون يتغنون بقصائده في النوادي، وكان لا يخلو مجلس من ذكر بيت له أو قصيدة، هذا وهو حي، ثم لما مات استفحل ذكره وزاد وكثرت المصنفات التي تتحدث عنه، وكثر شراح شعره والمعلقون عليه. فأبو فراس نشأ شعره في ذلك الزمن الذي لم يكن يعرف فيه غير المتنبي. ولولا أن ابن خالويه جمع شعر أبي فراس ما عرفنا عنه شيئا.

فلما توفي أبو فراس في شبابه (عام 357 ه)، تألم شيخه ابن خالويه الحسين بن أحمد (توفي عام 370 ه)، فأخذ على عاتقه جمع شعر تلميذه الراحل، وتلك لعمري من حسنات تاريخ الأدب العربي، فلم نكن لنعرف الكثير عن شعر أبي فراس لو أن ابن خالويه لم ينفذ هذا المشروع النبيل.

حتى المصادر القديمة، عندما تورد شعر أبي فراس، فإنها تأخذه من رواية ابن خالويه. فالثعالبي مثلا كان ممن عاصر أبا فراس، لأنه أدرك سبع سنين من حياة أبي فراس، وأدرك عشرين سنة من حياة ابن خالويه، مع ذلك نجد أن كل ما أورده الثعالبي في يتيمته من شعر أبي فراس، مأخوذ من ديوان أبي فراس الذي جمعه ابن خالويه. فمع قرب الثعالبي من عهد أبي فراس، لم يجد شعره إلا في الديوان الذي صنعه ابن خالويه. وإذا كان إيجاد شعر أبي فراس متعذرا على الثعالبي الذي عاصره، فكيف بالأجيال اللاحقة، التي لم تكن لتعرف عن أبي فراس شيئا لولا ابن خالويه، لقد أنقذ ابن خالويه كنزا نادرا من كنوز الأدب العربي، كنا سنعض على تفويته أصابعنا ندما وتحسرا، فالحمد لله الذي ألهم ابن خالويه جمع شعر أبي فراس.

كان أبو فراس شاعرا كاملا -لو وجد شاعر كامل-، وقد قال الصاحب ابن عباد: "بدئ الشعر بملك، وختم بملك"، يقصد أنه بدئ بامرؤ القيس وختم بأبي فراس.

أول طبعة كاملة لديوان أبي فراس كانت عام 1944، نشرها المعهد الفرنسي بدمشق بتحقيق سامي الدهان رحمه الله، وكان تحقيقه مضبوطا. لكن، بعد ذلك بأكثر من خمسين سنة عام 2000، حقق ديوان أبي فراس تحقيقا أكثر ضبطا، بعدما وقف على أقدم نسخة للديوان في تونس، فنشرت مؤسسة البابطين الديوان انطلاقا من تلك النسخة، وذلك بتحقيق اللغوي المغربي محمد بن شريفة رحمه الله.

كان أبو فراس شاعرا كاملا -لو وجد شاعر كامل-، وقد قال الصاحب ابن عباد: "بدئ الشعر بملك، وختم بملك"، يقصد أنه بدئ بامرؤ القيس وختم بأبي فراس.

ومما يميز أبا فراس أنه يستحيل أن يزور عليه أحد شعرا، فإذا قرأت ديوان أبي فراس وتشربت من أسلوبه، يستحيل أن تسمع بيتا منسوبا له كذبا إلا تبين لك ذلك بسهولة.

ولعل أهم ما يميزه، رقة فخره، فالفخر في العادة يكون ثقيلا على السامع، لكن فخر أبي فراس يندر أن تسمع مثله في اللطافة والعذوبة، واقرأ إن شئت قوله:

أبت لي همتي وغرارُ سيفي – وعزمي والمطية والقِفارُ

ونفسٌ لا تُجاورها الدنايا – وعِرض لا يرِف عليه عارُ

وقومٌ مثلُ من صحبوا: كرامٌ – وخيلٌ مثلُ من حملتْ: خيارُ

وَكَم بَلَدٍ شَتَتناهُنَّ فيهِ – ضُحىً، وعَلا مَنابِرَهُ الغُبارُ

وَكَم مَلِكٍ نَزَعنا المُلكَ عَنهُ — وَجَبّارٍ بِها دَمُهُ جُبارُ

وَكُنَّ إِذا أَغَرنَ عَلى دِيارٍ – رَجَعنَ وَمِن طَرائِدِها الدِيارُ

كما أنه تميز بغرض "الروميات"، وهي أشعاره التي قالها أسيرا عند الروم، كرائيته المشهورة: "أراك عصي الدمع"، وكمناجاته للحمامة: "أقول وقد ناحت بقربي حمامة".

ليت الأطفال في المدارس يحفظون شعر أبي فراس، فهو أنفع لهم من المحفوظات الكثيرة التي تخدر العقول وتقتل الإبداع.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.