شعار قسم مدونات

غزة.. والفضاء العام المأمول

جماهير سلتيك تدعم غزة
جماهير سلتيك تدعم غزة (مواقع التواصل الإجتماعي)

تبلور مصطلح الفضاء العام في أوروبا مع ظهور الدولة المدنية الحديثة. وكان من وظائفه تشكيل وتعزيز قيم مدنية أساسية مثل حرية التعبير والمشاركة واحترام الرأي الآخر، والتواصل اللفظي والفكري، والتماسك الاجتماعي، والتسامح، وغيرها من المفاهيم المنفتحة على التنوع والاختلاف، من أجل بناء حد أدنى من الإجماع الوطني حول القضايا والإشكاليات المرتبطة بالتوافق السياسي في المجتمع. ويتبدى الفضاء العام في أمكنة تصورية إلى حد ما (مقهى، صحافة، محكمة، راديو، أماكن الاجتماعات..) حيث يجتمع المواطنون لمناقشة مواضيع تتعلق بالمجتمع، ويثير الأفراد في هذه الأماكن نقاشات أو يقومون ببعض الأعمال (إضرابات، عرائض، تظاهرات..) تتعلق بالصالح العام، ويمكن أن تؤثر في القرارات السياسية. أي إنه مجال حوار وتواصل بين الأفراد، يمكن من خلاله أن يتم تشكيل رأي عام لا تستطيع السلطة تجاوزه أو تجاهله بسهولة.

والملاحظ أن الفضاء العام ينزوي ويتقلص في المجتمعات التي تحكمها أنظمة استبدادية أو تسلطية، لكنه ينتعش ويتوسع في المجتمعات التي تحكمها أنظمة تترك مساحة حرية للمواطنين للتعبير وإبداء الرأي، وهو ما يمكن أن يفسر لنا لماذا تتزايد حركات المناصرة والمدافعة عن قضايا هامة، كقضية فلسطين مثلا، في العالم الغربي، بينما لا نجد ذلك في بلادنا العربية والإسلامية، التي من المفترض أن تكون هي المدافع الأول عنها.

ورغم أن وسائل الإعلام الحديثة وآلياتها المسيطرة تلاعبت بالفضاء العام وتحكمت به حتى في المجتمعات الديمقراطية، إلا أن الهيمنة على النقاشات والحوارات الدائرة في تلك المجتمعات ما يزال أمرا صعبا، بعكس المجتمعات التي تسيطر عليها أنظمة تسلطية خنقت الفضاء العام واختزلته وحولته إلى مجال لهيمنة وتلاعب فئات محددة من الفاعلين المسيطرين كما في معظم البلاد العربية والإسلامية للأسف.

هل استطاع هذا الفضاء إنتاج رأي عام توافقي إلى حد ما حول القضايا المفصلية التي تهم المواطنين، كقضايا فلسطين والثورة ونظام الحكم وإدارة الدولة والهوية والعقد الاجتماعي..؟

مخاض الفضاء العام في دول الربيع العربي

كشفت الثورات العربية عن إمكانية كبيرة للفعل المجتمعي في الدول العربية التي شهدت خلال السنوات الماضية حراكا شعبيا لافتا، عدا عن النقاشات والحوارات التي راحت تتناول كثيرا من الأمور التي كانت ومازالت محرمة في ظل الأنظمة القميعة، ولعبت وسائل التواصل الاجتماعي دورا مهما في إيجاد ما يشبه الفضاء العام، وشكلت المورد الأهم للتفاعلات والحوارات، خاصة مع غياب الساحات الأخرى نتيجة القمع الممارس من قبل السلطة، مما جعل من وسائل التواصل الاجتماعي الفضاء شبه الوحيد خارج تحكم السلطة، والذي يستطيع المواطن التفاعل من خلاله مع الآخرين بحرية.

لكن السؤال المهم: هل استطاع هذا الفضاء إنتاج رأي عام توافقي إلى حد ما حول القضايا المفصلية التي تهم المواطنين، كقضايا فلسطين والثورة ونظام الحكم وإدارة الدولة والهوية والعقد الاجتماعي..؟ وهل كان قادرا على الوصول إلى حلول لمشاكل التشظي المجتمعي والطائفية والحرب الثقافية التي تنامت واستفحلت بين الأطياف المختلفة؟

إن نظرة سريعة إلى النقاشات الدائرة في مواقع التواصل حول الأمور العامة في الدول العربية تظهر مجموعة من النقاط الجديرة بالاهتمام، ومنها:

  • أنها غير منضبطة ومتأثرة بالأحداث اليومية الجارية.
  • فيها كثير من الانفعال والخروج عن آداب الخطاب. وتلامس الموضوع المطروح ملامسة سطحية غير معمقة، فهي أشبه بمعارك كلامية من أن تكون نقاشات أو حوارات تتبادل فيها الأفكار والآراء.
  • تظهر مدى التباين الكبير والانقسام الموجود بين المتحاورين ومدى تمترسهم حول آرائهم.
  • رغم أن مواقع التواصل تتيح مجالا مفتوحا لأي شخص للتعبير عن رأيه، إلا أن هناك نوعا من "التزييف" و"تجميل" الآراء خوفا من الهجوم أو ردات الفعل، مما يجعل كثيرا من الآراء لا تعبر عن الفكر الحقيقي لمطلقيها، وبالمقابل هناك رغبة عند آخرين بجلب الانتباه وإثارة الردود عبر نشر الآراء المستفزة والقضايا المصطنعة التي تثير عواصف وزوابع افتراضية لا تخدم أي حوار أو نقاش، وهو ما يجعل مواقع التواصل فضاء لا يعكس حقيقة الرأي العام وتفاعلاته بشكل صحيح.

ورغم كل ذلك، كان من الممكن أن ينضج الفضاء العام في بلادنا، ويصبح مساحة حوار وتواصل فاعل، لو وجد مساحة آمنة وحرة، لكن الثورات المضادة فعلت فعلها في خنق حتى هذه المساحة الجنينية التي كانت تتشكل ببطء، ولم يستطع المتحاورون في البلاد العربية إنتاج فضاء عام حقيقي ومؤثر، وعادت الرقابة بأشكال أكثر وحشية وفتكا.

التحركات المجتمعية في كثير من البلاد العربية والإسلامية محكومة بالأدوات الأمنية القمعية لأنظمتها، لكن في الوقت نفسه هناك تفاعل شعبي في فضاء عام موازٍ مخفي ومستتر، فيه مساحات متعددة ومتداخلة ومتفاعلة، تناقش ما يجري في غزة وكيفية دعم القضية الفلسطينية

هل ستقدم غزة فرصة لإنعاش الفضاء العام العربي؟

تستمر حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة التي قتلت الآلاف حتى الآن، ومع نزوح نحو 1.5 مليون شخص، يتواصل القصف الإسرائيلي البري والجوي في أنحاء مختلفة من القطاع مدمرا كل شيء فيه، بينما نجد التفاعل الشعبي العربي والإسلامي المعلن في تضاؤل مستمر، فلا يكاد يوجد مظاهرات ولا وقفات ولا فعاليات تلفت نظر العالم لما يجري في غزة، أو تضغط لوقف المذبحة، فهل هذا يعني أن العرب والمسلمين غير مهتمين؟ بالتأكيد لا، فاستطلاعات الرأي تؤكد أن الأغلبية الساحقة من العرب والمسلمين يعدون فلسطين قضيتهم الأولى، ولا يختلفون حول شرعية المقاومة، ويعادون إسرائيل، على الرغم من التباينات الكبيرة بين مواقف أنظمتهم من تلك القضايا.

التحركات المجتمعية في كثير من البلاد العربية والإسلامية محكومة بالأدوات الأمنية القمعية لأنظمتها، لكن في الوقت نفسه هناك تفاعل شعبي في فضاء عام موازٍ مخفي ومستتر، فيه مساحات متعددة ومتداخلة ومتفاعلة، تناقش ما يجري في غزة وكيفية دعم القضية الفلسطينية بكل الأشكال الممكنة، حتى داخل الأسرة الواحدة، وتحاول الاستفادة من دروس غزة، وتحاول الاستعداد والإعداد، فالقناعة الشعبية بأن الظلم لن يدوم، وأن المواجهة قادمة لا محالة، يجعل من تلك التفاعلات شرارات تتوهج بازدياد، بعيدا عن قيود السلطات التي تجد نفسها غير قادرة على السيطرة الكاملة على مثل هذا الحراك الذي ينمو ويتضخم يوما بعد يوم، متشجعا بالحراك العالمي المؤيد للقضية الفلسطينية، والفاضح لكذب وخداع الدول الغربية الداعمة لإسرائيل وعدوانها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.