شعار قسم مدونات

النموذج الماليزي في الحكم بين الإسلامية والعلمانية (5)

رئيس الوزراء الماليزي السابق مهاتير محمد (خاصة).
رئيس الوزراء الماليزي السابق مهاتير محمد (الجزيرة)
  • مهاتير محمد وروح الدولة الإسلامية

نختتم هذه السلسلة من الحلقات عن النموذج السياسي الماليزي في الحكم بقول مهاتير محمد:  "عندما قررت إضفاء مغزى إضافي على المادة الدستورية التي تنص على أن الإسلام هو الدين الرسمي للدولة، لم أقصد أنه يتعيّن على جميع سكان ماليزيا الآخرين أن يصبحوا مسلمين. كل ما أردناه هو تشريب الماليزيين القيم الإسلامية حتى من دون حملهم على التحول إلى الإسلام، لذاك أعلنت في سنتي الثانية في رئاسة الوزراء الاسترشاد بالقيم الإسلامية".

ماليزيا واحدة من الدول التي عانت من استعمار عسكري  بريطاني ثم ياباني، وما يتركه الاستعمار عادة من إرث ثقافي ثقيل الوطأة، لاسيما الاستعمار البريطاني، وهو أمر ليس من السهل تجاوزه إلا بجهود مضاعفة

وأضاف: "وذكرت في كلمة ألقيتها في الاجتماع العام لحزب سياسي غير مسلم في سنة 1996م أن ماليزيا دولة إسلامية، ولم يعترض غير المسلمين على ذلك، لأنهم عرفوا أن الأغلبية المسلمة التي هيمنت على الحكومة منذ قامت ماليزيا عاملتهم بعدل وإنصاف. لكن هناك مسلمون حتى في ماليزيا يعتقدون أن الشيء الوحيد الذي يجعل دولة ما إسلامية هو ضرب أعناق القتلة وقطع أيادي السارقين. لكنه معيار تعسفي فالقرآن يدعو إلى إقامة مجتمع إسلامي لا إلى دولة إسلامية…".

ليس معنى الجملة الأخيرة في حديث مهاتير اعتراضه على فلسفة قيام دولة في الإسلام، إذ إن حديثه في العبارات السابقة صريح جلي بعكس ذلك، حيث سعيه الحثيث إلى بلورة الدولة الإسلامية في المجتمع الماليزي، رغم العوائق، والاعتراف بعدم بلوغ المدى المنشود في ذلك، وهو ما يدحض مثل ذلك الاستنتاج، الذي قد يذهب إلى التشكيك في إيمان مهاتير محمد بمشروعية الدولة الإسلامية وضرورتها، ناهيك عن تضافر شواهد عدة تؤكد حماسة الرجل لبلورة تلك الدولة، وبذله جهوداً مضنية في سبيل ترسيخ هذه الحقيقة في ماليزيا، ولكن بأسلوب هادئ متدرّج، إذ ماليزيا واحدة من الدول التي عانت من استعمار عسكري  بريطاني ثم ياباني، وما يتركه الاستعمار عادة من إرث ثقافي ثقيل الوطأة، لاسيما الاستعمار البريطاني، وهو أمر ليس من السهل تجاوزه إلا بجهود مضاعفة، تأخذ مداها الزمني غير القصير غالبا، شأن ماليزيا في ذلك  شأن كثير من بلدان العالم الإسلامي التي تعرضت لغزوة الاستعمار العسكري وامتداد إرثه الثقافي والفكري حتى بعد رحيله، علاوة على وجود إثنيات كبيرة في ماليزيا، حيث لا يزيد عدد المسلمين (الملايو)، أي السكان الأصليين في البلاد عن 60%، على حين أن 40% يتوزعون بين بوذيين من أصول صينية، وهندوس من أصول هندية، قدموا مع الاستعمار، كما أن هناك أقليات صغيرة أخرى مسيحية وغيرها.

إذا كان ذلك هو الحال فماذا قصد مهاتير محمد بالعبارة السابقة؟

لقد أطلقها  مهاتير في وجه أولئك الذين يختزلون مفهوم الدولة في الإسلام في تطبيق قانون العقوبات الجنائية، وكأنه وحده الشريعة الإسلامية، أو أن الدولة الإسلامية لا تصبح مستحقة لذلك الوصف إلا إذا طبقت الحدود وقانون العقوبات الجنائية، حتى لو كان ثمة عوائق موضوعية منها الظاهر ومنها الخفي، تحول دون ذلك، وربما غض أصحاب تلك الدعوة النظر عن حقيقة قيام مجتمع إسلامي متكامل الأركان وحدة وتآلفا واكتفاء ذاتيا وقوة عسكرية وتنمية شاملة، وانصرف كل اهتمامهم وهمهم إلى ذلك الجانب المحدود من الشريعة، وهو -على أهميته  المعلومة- لا يعني أنه الشريعة كلها.

مثلت مرحلة مهاتير الأولى تجربة فريدة نجح الإسلاميون وحلفاؤهم فيها بأسلمة النظام السياسي الماليزي رغم بقاء أبرز أحزاب الإسلام السياسي "باس" خارج الحكم.

ومع الفارق الواضح بين الحالتين والشخصيتين والسياقين؛ إلا إن موقف مهاتير محمّد  هذا يذكرنا بمقولة قالها الأستاذ حسن البنا:" أقيموا دولة الإسلام في قلوبكم تقم على أرضكم"، كما يذكرنا بما رواه بعض من لازم البنا  وعرفه عن قرب، أو عاصره، أنه ندم على دخول التنافس السياسي، دون إعداد له، ودون ولوجه من طريقه الصحيح، أمثال الشيخ محب الدين الخطيب، والشيخ محمد الغزالي، والأستاذ فريد عبد الخالق، والشيخ أبو الحسن الندوي، والدكتور عبد العزيز كامل، والأستاذ فتحي رضوان، والأستاذ محمود عبد الحليم، والأستاذ كريم ثابت مستشار الملك فاروق الإعلامي، وغيرهم من كونه أظهر حسرته في مرحلة تسبق استشهاده حين عبر عن إدراكه متأخرا لخلل وقع  في أولويات دعوته، إذ  لو استقبل من أمره ما استدبر لانشغل بالتربية والتعليم عن الدولة والسياسة، أو على حدّ تعبير مقولته الحرفية "ولو استقبلت من أمري ما استدبرت، و لرجعت بالجماعة إلى أيام المأثورات"، ومؤكدا أن ذلك لا يعني أن حسن البنا  ومن يردد مثل هذه المقولات ممن عرفوا بإيمانهم بشمول النظام الإسلامي العقيدة والشريعة؛ غيروا فكرهم من شمول الإسلام إلى تجزئته  أو تبعيضه، أو عده مجرد رسالة تربوية تهذيبية روحية، أو أن الشريعة والحكم ليسا من شؤون هذا الدين أو جوهره، بل المقصود مراعاة فقه الأولويات والمصالح  في كل مرحلة زمانا ومكانا، وأولها الاشتغال بإصلاح النفوس وتزكيتها على ما عداها، فإن صلاحها يعني حسن استقبالها للإسلام نظاما شاملا للحياة من غير أن يعني ذلك التقليل من شأن الحكم والتشريع والسياسة، ولكن حين يأتي أوانها، خشية أن نقع في ارتكاب محظور أشارت إليه  القاعدة الأصولية القائلة:" من استعجل شيئا قبل أوانه عوقب بحرمانه". وهنا يجدر التأكيد على أن ثمة فرقا حقيقيا بين من يرى أن تطبيق تلك العقوبات ليس من الإسلام أو من شؤون الدولة الإسلامية في شيء، أو أنه لم يعد مناسبا لعصرنا، وبين من يرى تأجيل ذلك إلى حين يتم التغلب على تلك العوائق، وذلك هو ما يعنيه الرجل.  -أما الأخرى فتلك دعوى علمانية عريضة معلومة- لكن مهاتير محمد لا يؤمن قطعا بها، بعد كل تأكيداته السابقة على نقيضها.

وأجدني في ختام هذه المناقشة لحالة النموذج الماليزي بين الإسلامية والعلمانية أتفق مع أحد الباحثين حين قال: " ورغم أن الدارسين لشخصية وتجربة مهاتير السياسية يترددون في ضمه إلى دائرة الإسلام السياسي إلا أن الكاتب يميل لاعتبار تجربته -فكرا وممارسة- تجربة إسلامية فريدة تمثل نموذجا متقدما من نماذج الإسلام السياسي قادها الرجل باقتدار قبل عقود من وصول معظم تيارات الإسلام السياسي للحكم.

لقد مثلت مرحلة مهاتير الأولى تجربة فريدة نجح الإسلاميون وحلفاؤهم فيها بأسلمة النظام السياسي الماليزي رغم بقاء أبرز أحزاب الإسلام السياسي “باس” خارج الحكم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.