شعار قسم مدونات

عن روح العصر وبيت الأمة الكبير!

مكتبة الجاحظ
بعض الناس يبدأ بالعلم فيثقله فيتركه على الباب وبعضهم يدخل إلى أعماقه (الجزيرة)

الناس طبائع ومراتب في كل مجال فاختلاف الغايات والقدرات يجعل من التساوي حلما مستحيلا، بل وهما صريحا. والعلم والتعلم ليس خارجا عن القاعدة، بل ربما يكون من أوضح المجالات التي يظهر فيها التفاوت. فبعض الناس يبدأ بالعلم فيثقله فيتركه على الباب، وبعضهم يدخل إلى غرفة الضيوف، يسمع حديث سكان البيت، وهمس الغرف الداخلية، ويتناول ما خرج إليه من نتاج المطبخ. والبعض يدخل إلى المعجنة، فينتج وينتج، يزدرد المناهج ويشرب الأمثلة، حتى يصبح من أهل البيت، ولربما تكون له غرفة من غُرَفه، والغرف تكبر وتصغر. ‏

كيف يكون من يرى الفيض ومن يرى المفارقة في صف واحد؟ الحقيقة أنهم جميعا روح عصرهم على اختلافهم وتناقضهم، كلهم قطع في فيسيفساء جميلة، وكل لوحة فسيسفائية فيها أحجار بيض وأحجار سود، وأكثرها الرمادي.

والحالة العلمية والفكرية لأمة ما هي جماع تلك الغرف كلها، فالأمة مجموع ما ينتجه أبناؤها على مدى التاريخ، والإرث فيه وارد وواجب، فكم من أمة ورثها جيل خرابا فعمروها وأعمروها فأورثوها لمن بعدهم قصورا شامخات، وكم من جيل استلم قصورا فهدمها فوق رؤوس أبنائها ليتسلمها الجيل التالي خرابات أطلالا. والمقلق في هذا هو أن "عقل الجيل" المتمثل في صورة القصر حال التسليم ليس بالضرورة عاقلا، فهو مجموع التعقيلات، وتعقيلات المجموع بطبيعتها متناقضة متنافرة لاختلاف مشاربها ومواردها، فكيف لنا أن نحكم على عقل العصر أو عقل الجيل وهو بذاته لا يفهم نفسه؟

الحقيقة أن الجيل ذاته لا يمكنه أن يفهم عقله، فالمرآة لا ترى نفسها، إلا أن الأجيال القادمة تنظر فاحصة إلى من سبقها فتحكم عليها وتقيمها، فترى فكرة -أو صاحبها- روحا لعصر ما، فقد يرى البعض الشافعي روحا لجيل، وابن حنبل والغزالي كذلك، أو قد يرى ابن سينا والفارابي أو ابن رشد أرواحا وعقولا لأعصار مختلفة. لكن، كيف يكون صاحب التهافت وصاحب تهافت التهافت كلاهما روحا لعصر؟ وكيف يكون من يرى الفيض ومن يرى المفارقة في صف واحد؟ الحقيقة أنهم جميعا روح عصرهم على اختلافهم وتناقضهم، كلهم قطع في فيسيفساء جميلة، وكل لوحة فسيسفائية فيها أحجار بيض وأحجار سود، وأكثرها الرمادي.

لم يهمنا هذا الآن؟ ما يهمنا هو أننا كذلك قطع تنضاف إلى روح عصرنا وقصر أمتنا، ومسؤوليتنا ليست تشكيل تلك الروح فليس ذلك لنا، إلا أن ما لنا هو أن نعمل على إيجاد بعضنا وصك أنفسنا ليكون لنا مكان في تلك اللوحة، وإلا فملايين القطع تتساقط على هوامش اللوحة لتكنس مع التاريخ شيئا فشيئا، لا لأنها سيئة بل لأنها لم تأخذ لونا أو شكلا يفيد اللوحة الكبرى.

يحزنك أن ترى بعض من بدؤوا في طريق العلم، تركوا الدخول إلى بيته، وانشغلوا بالنظر من نوافذ البيت إلى الجالسين في الغرف، يسمعون كلمة من هذا وكلمة من ذاك، نكتة من هؤلاء، ومعلومة من أولئك، دون مناهج تضبط ولا إطار يحيط

دعوني أعد قليلا إلى البيت الذي ذكرته في البداية، إن وظيفة المفكرين والمربين والمدرسين هو أن يدلوا الناشئة إلى غرفهم، والتي يعرفون بطبيعة الحال أنهم لن يبقوا فيها، إلا أن دلالتهم تلك هي التي تجعلهم ورثة الأنبياء، فما بعث النبي إلا معلما ومرشدا. وهمة المعلم والمربي هي -في هذا السياق- أن يثبت طلابه في اللوحة الكبرى، لذلك يرى من نفسه ذلك الحرص الشديد على التوجيه والحرقة الشديدة على الالتزام.

ولذلك أيضا يحزنك أن ترى بعض من بدؤوا في طريق العلم، تركوا الدخول إلى بيته، وانشغلوا بالنظر من نوافذ البيت إلى الجالسين في الغرف، يسمعون كلمة من هذا وكلمة من ذاك، نكتة من هؤلاء، ومعلومة من أولئك، دون مناهج تضبط ولا إطار يحيط، ينشغلون بما قال فلان عن علان، وما رد علان على فلان. ينقلون كلام هذا لهذا، ونقد هذا لهذا، وهم يظنون أنهم يتعاطون العلم، وهم والله متعاطون لحظوظ النفس وشهوات الظهور. والمؤلم كل الألم، أن ترى من كنت تأمل أن يكون يوما من ذوي الغرف يتلصص من النوافذ، يبحث عما يملئ به فراغا ما في نفسه وشهوة ما في قلبه، حتى يقوم أحد الجالسين ليغلق دونه الستارة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.