شعار قسم مدونات

الوقوف معا.. رحلة التضامن بعد الزلزال

شاركت المتطوعات السوريات جنبا إلى جنب مع الرجال في عمليات انتشال العالقين تحت أنقاض الزلزال (الجزيرة)

ضرب الزلزال المدينة التي أعيش فيها قبل عام من الآن في 2-2023، كنت ما بين النوم واليقظة لما شعرت بصوت غريب آت من أعماق الأرض وكأنها القيامة، مترافقا مع هزة مرعبة شعرت وكأنها دامت دهرا، للحظة ظننت أنه القصف المعتاد، لكن مع شدة الاهتزاز أيقنت أنه الزلزال، وبأننا قد تعايشنا مع الموت تحت القصف، لكن ما نواجهه في تلك اللحظة أمر أشد هولا ورعبا.

جاء الزلزال لينسف الفكرة برمتها، ويعيد للخيمة مجددا هيبتها، وهي التي صبرت على كل أنواع المعاناة وتنقلت بخفة، وضمت المتعبين والحزانى والمنكسرين واحتوتهم كما يحتوي الطفل قلب أم حنون.

كان الأمر المربك حقا هو كيف بوسعنا أن نتصرف أمام حدث خارج عن إرادتنا التحكم فيه، ماذا علينا أن نفعل سوى أن نجمع أفراد العائلة، أو نفكر بتفريقهم حتى لا نموت مجتمعين، للحظة قد فكر بعضنا أن الموت الجماعي مريح أكثر، فلا أحد سيبقى كي يحزن على بقية أفراد أسرته، ولكن في اللحظات العسيرة تبقى نفكر بالحلول الممكنة، والابتعاد عن أي سقف يمكن أن يكون فوق رؤوسنا، فالسماء في تلك الحالة رحمة، عندما تكون سقفنا الوحيد، ولست أدري كيف علينا أن نتصالح مع هذا السقف الواسع الرحب، وقد بذلت المنظمات الخيرية والأفراد والمؤسسات جهودا استثنائية، لإيجاد سقوف تحمي المهجرين والنازحين وتؤويهم من المبيت في الخيام، كانت السقوف إنجازا عظيما تحقق لآلاف الأسر في الشمال السوري، وكانت فرحتنا عظيمة عندما كانت كل أسرة تهدم خيمتها إلى الأبد وتتسلم مفتاح شقة صغيرة تؤويها وتكفيها من البرد والحر.

جاء الزلزال لينسف الفكرة برمتها، ويعيد للخيمة مجددا هيبتها، وهي التي صبرت على كل أنواع المعاناة وتنقلت بخفة، وضمت المتعبين والحزانى والمنكسرين واحتوتهم كما يحتوي الطفل قلب أم حنون. فلم يلبث الناس إلا ونصبوا الخيام مجددا معتذرين متصالحين معها، لتكون الملاذ الأساسي لكل الخائفين بعد أن بدأت تتوالى الهزات الارتدادية.

في اللحظات التي تلت الزلزال كان علينا أن نستفيق من الصدمة، ونحاول تفقد كل الذين نعرفهم، في العادة نتفقد بيتا، أو حيّا أو مدينة، لكن كان علينا هذه المرة أن نتفقد الجميع، الجميع دون استثناء، وقد كانت هذه المرحلة قاسية، فأخبار الموت انهالت وتدرجت لعدة أيام متواصلة، فلحظة وقوع الكارثة يصعب التركيز في أخبار المفقودين أو أعدادهم، الأخبار ترصد الصور، والصور تقوم بمهمة سرد الفاجعة، دون الحاجة إلى كلام.

الصوت الوحيد الذي بقينا نسمعه هو صوت استغاثة الناس والفرق التطوعية، هذا الصوت الذي كان أهم عوامل الإيقاظ من الصدمة، حين أدركنا بأننا قد نجونا، أدركنا أيضا أن على ذات الجغرافية أشخاص ابتلعتهم الأرض والمباني المحطمة، وهناك من أصيب وهناك من فقد، وهناك أيضا من أضحى بلا مأوى أو طعام، فبدأ التحول إلى العمل والفاعلية لتقديم المساعدة لكل هؤلاء.

خرج مئات من الشباب المتطوعين ليساعدوا المتضررين، وتحركت كثير من النساء اللواتي كن مصنفات بالضعف والتهميش والانهيار، تحرك الجميع بكل ما امتلكوا من قدرات ليسدوا فجوات غياب الدول عن المشهد

كنت في كل مرة أتحرك فيها إلى مكان أذهل من قصص المتطوعين التي أسمعها منهم وهم  يعملون على تنظيم صناديق الإغاثة، أو تأمين الخيام، أو تقديم بعض الألعاب للصغار في المخيمات الجديدة، كانت الشدة على قلوبهم أقسى وهم على احتكاك مباشر بكل المشهد على حقيقته، هناك لا شيء مزور، لا مراقبة للعالم الخارجي من خلال صورة أو شريط أخبار على الشاشة الرئيسية، بل هناك تواصل بالناس، وملامسة لهمومهم وأوجاعهم المختلفة، وهناك ألم آخر وهم كان يستغرق تفكيرهم، في محاولة لتأمين حاجات كل هؤلاء، خاصة وأن الاعتماد في هذه الإجراءات كلها، والعبء الأساسي على الناس الذين يعيشون في هذه المنطقة، وقد تأخرت عنهم المساعدات الدولية، فكان عليهم جميعا أن يبادروا بكل ما لديهم لينقذوا الآخرين أو يخففوا عنهم بعض الألم والأذى.

في هذه المنطقة التي تبدو وكأنها متعبة ومستنزفة من كل شيء، والتي تحوي مئات الآلاف من الناس الذين قاسوا من أهوال القصف والحصار والأسلحة بأنواعها، ثم حوصروا في مخيمات حرمتهم العيش الكريم الذي يحتاج إليه كل إنسان، خرج مئات من الشباب المتطوعين ليساعدوا المتضررين، وتحركت كثير من النساء اللواتي كن مصنفات بالضعف والتهميش والانهيار، تحرك الجميع بكل ما امتلكوا من قدرات ليسدوا فجوات غياب الدول عن المشهد، وأثبتوا أن النهوض ممكن مهما كان حجم الكارثة، وأن كثيرا من الكوارث قد تأتي كقدر لا يمكن صده أو تغيير مساره، لكن من الممكن تضميد الجراح بعد انتهائه، ومهما بلغ الإنسان من الضعف، ومهما بدا عليه من الهشاشة، إلا أنه يمتلك قوة كبيرة كامنة في داخله، قوة الضمير الإنساني الذي يحركه ليتفاعل ويقوم بواجبه، قوة إيمانه بأن الفعل مهما بدا ضئلا إلا أن أثره كبير إن آمن به الأكثرية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.