شعار قسم مدونات

كيف يمكن تفكيك الاستعمار الاستيطاني؟

معضلة هذا المشروع الاستعماري هي سكان الأرض الأصليين (أسوشيتد برس)

منذ عملية طوفان الأقصى، لم تتوقف آلة القتل الصهيونية عن ارتكاب المجازر في قطاع غزة لأكثر من أربعة أشهر كاملة، أسفرت حتى الآن عن أكثر من 28 ألف شهيد، و68 ألف مصاب، وفق التصريحات الرسمية لوزارة الصحة، وأدت إلى دمار هائل في القطاع يقدر -وفق التقديرات المبنية على صور الأقمار الصناعية- بخنحو 68% من المباني في شمال القطاع، و72% في مدينة غزة، و46% في خان يونس، و20% بمدينة رفح، وهو الدمار الذي أدى إلى حركة نزوح شاملة داخل القطاع تقدر بنحو 1.4 مليون فلسطيني.

أمام جرائم دولة الاحتلال هذه، والتي تمارس بلا رادع من قانون دولي، أو ضغوط دبلوماسية، يقف الفلسطينيون من أهل القطاع مستباحين، لا يملكون إلا سلاح مقاومتهم، واستبسالهم في التمسك بأرضهم حتى الموت، وعلى الرغم من تنامي الحراك الشعبي المناصر لقضيتهم إقليميا ودوليا، إلا أن هذا لم ينعكس حتى الآن على المواقف الرسمية للحكومات الغربية، والتي يتراوح موقفها بين الدعم المكشوف والتواطؤ الضمني، ولم ينجح حتى في دفع الحكومات العربية والإسلامية أن تتخذ مواقفا فعالة بعيدا عن التصريحات المستنكرة والأنشطة الإغاثية.

الممارسات الإسرائيلية عبر سبع عقود أو يزيد تجاه الشعب الفلسطيني، نجد أنها مزيج من هذه الاستراتيجيات الأربع، التي تهدف إلى إنهاء وجود الفلسطينيين، إما بالقتل والتهجير للتخلص منهم تماما، أو بالدمج القسري والتمييز العنصري لمن بقي منهم داخل الأرض بهدف التحييد والإخضاع

هذا الواقع المرير جعل الكثيرين يتسألون عن جدوى عملية طوفان الأقصى، وهل المقاومة المسلحة هي الوسيلة المناسبة لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي؟، وهي الأسئلة التي تساق أحيانا من باب التخزيل والتثبيط، والترويج لمشاريع "الاستسلام" الإقليمية، وفي أحيان أخرى، بدافع من الحيرة والألم لفداحة الخسائر البشرية والمادية، التي تتسبب بها أعمال المقاومة، والإجابة على هذه الأسئلة تحتاج إلى مقاربة تأسيسية لطبيعة الاحتلال الإسرائيلي، كأحد النماذج الباقية للاستعمار الاستيطاني.

الاستعمار -كعلاقة إخضاعية تمارسها إحدى المجموعات البشرية إزاء مجموعات أخرى عادة بهدف الهيمنة السياسية والاستغلال الاقتصادي- له أنماط متعددة، منها ما هو قائم على السيطرة غير المباشرة عبر وكلاء محليين، ومنها ما هو محدود في مدى تغلغله العسكري والسياسي والاقتصادي في البلد المحتل بتحقيق مصالح متعينة وواضحة، وأفدحها هو الاستعمار الاستيطاني، والذي لا يتضمن فقط الاحتلال العسكري والسياسي والاقتصادي، بل يرافقه كذلك عملية نزوح بشري، وإعادة توطين للمجموعات البشرية الوافدة إلى الأرض الجديدة، والتي تقرر أن تجعل من هذه الأرض وطنا لها.

ولأن هذه الأرض، بطبيعة الحال، مسكونة، تكون معضلة هذا المشروع الاستعماري هي سكان الأرض الأصليين، والتي تشير الخبرات التاريخية إلى أن التعامل معهم من قبل المستوطنين الجدد تتمثل في حلول أربعة: إما الإبادة الجماعية بالقتل العشوائي وعلى نطاق واسع بما يغير من التركيبة السكانية في هذه الرقعة من الأرض، أو التهجير من الوطن الأم إلى الشتات، بكافة وسائل الإرهاب، وتدمير الممتلكات، ونزع الملكيات، وإلغاء الجنسيات، والحرمان من حق العودة، أو الإدماج القسري، بمعنى محو الهوية الأصلية لسكان الأرض، وفرض الهوية الثقافية والحضارية للمستوطنين، بل وأحيانا إعادة صياغة تاريخ وهوية الأرض ذاتها وفق رواية هذا المستوطن، أو الفصل العنصري، بأن يتم عزل من تبقى من سكان البلد الأصليين في "جيتو" مغلق، وممارسة كافة أشكال القمع والتنكيل، والتمييز السياسي والاقتصادي ضدهم، بما يبقيهم مفقرين وخاضعين وغير مستقلين دائما.

الاستعمار الاستيطاني هو أشد أنواع الاستعمار تغلغلا في الأوطان المستعمرة، فإن اقتلاعه منها، وتفكيك مشروعه يكون أشدها وطأة كذلك، وأحيانا يتعذر هذا التفكيك، كما حدث في حالة السكان الأصليين بالأميركتين وأستراليا

وبالنظر إلى الممارسات الإسرائيلية عبر سبع عقود أو يزيد تجاه الشعب الفلسطيني، نجد أنها مزيج من هذه الاستراتيجيات الأربع، التي تهدف إلى إنهاء وجود الفلسطينيين، إما بالقتل والتهجير للتخلص منهم تماما، أو بالدمج القسري والتمييز العنصري لمن بقي منهم داخل الأرض بهدف التحييد والإخضاع، وما الممارسات الإسرائيلية بعد معركة طوفان الأقصى إلا حلقة في سلسلة الإبادة الجماعية المنهجية هذه، تحقيقا لمقولة "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض".

وكما أن الاستعمار الاستيطاني هو أشد أنواع الاستعمار تغلغلا في الأوطان المستعمرة، فإن اقتلاعه منها، وتفكيك مشروعه يكون أشدها وطأة كذلك، وأحيانا يتعذر هذا التفكيك، كما حدث في حالة السكان الأصليين بالأميركتين وأستراليا، ليصبح المستوطنون هم سادة الأرض الجدد، وتنزوي الشعوب الأصلية على هامش المجتمعات الجديدة، وأحيانا تندثر تماما لتصبح تاريخا.

لذلك فإن مقاومة الاستعمار الاستيطاني للشعوب هي مسألة حياة أو موت، ولا تتم إلا بنضال طويل يمتد لعقود بل وأحيانا لما يتجاوز القرن، مثل نضال جنوب أفريقيا ضد نظام الفصل العنصري، كما أنه يتضمن عادة تضحيات جسيمة، تكافيء التهديد الوجودي الذي يتعرض له أصحاب الأرض، كتضحية أهل الجزائر للتخلص من الاستعمار الاستيطاني الفرنسي، والذي تقدر تضحياته بنحو مليون شهيد، وهو كذلك نضال على جبهات متعددة: عسكرية بالمقاومة المسلحة ضد عدوان المستوطنين، والتمسك بالأرض وبحق العودة للمهجرين في الشتات، ونضال من بقي داخل الوطن المُستعمَر ضد سياسات التمييز العنصري، ودفاعهم عن اللغة والذات الحضارية والثقافية ضد محاولات طمس الهوية، وأخيرا، إسناد هذه النضالات المتضافرة بدعم الشعوب والحكومات التي تقف مع حق هذا الشعب في السيادة على أرضه المحتلة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.