شعار قسم مدونات

سوبر ماركت الهويات؟!

في عالمنا الحديث يهرع الإنسان لحصد الممتلكات والتفاخر بها لا كدليل على النجاح بل كتحقيق شرط الوجود (وكالة الأنباء الأوروبية)

من أنا؟! سؤال على بساطته، إلا أننا نجد صعوبة في إجابته بوضوح، فلماذا يربكنا أي سؤال يتعلق بما نكونه وجدوى ما نكونه ومعنى الحياة التي نعيشها؟

ربما لأننا نعيش في عالم حديث، يعتمد على السرعة القصوى وعلى إذابة كل المعاني، وتقطيع الروابط، واجتثاث جذور الإنسان، عالم يدفع فيه الإنسان لأن يبقى مائعا على السطح، بجذور أفقية، قابلة للانتقال والتبديل والتغيير المستمرين. فالهويات الحديثة تستمد من أشياء سرعان ما تزول وقابلة للتغير. فيعيش الإنسان الحديث حياته، تلك التي تسير بوتيرة جنونية، فاقدا للمعاني، وإذا التقطه مرة يفقده مرات، تلتبس عليه الحدود، فلا يحسن اختيار أهدافه، ولا الطريق المناسب له، لأنه لا يحسن فهم ذاته. وربما لا وقت لديه ليفهمها.

وفي مقالتي هذه أتساءل عن معنى الهوية؟ ومن أي شيء يستمد الإنسان الحديث هويته المستحدثة شديدة الهشاشة وسريعة الزوال؟

الهويات الحقيقية إنما تستمد من أسس راسخة، لا تتغير بمرور الزمن؛ كالدين والأرض واللغة وتراث الأجداد، حينها يصبح الإنسان راسخا، ضاربا جذوره في العمق، مستقرا، يعي ذاته، ويدرك ما يريده والأهم يعرف ما يلائمه.

ماهية الهوية

الهوية، هي انسجام واتساق ما بين الإنسان، دينه وأرضه، لغته وتراثه، المناخ المحيط به وأحلامه وطموحاته وأهدافه، وأي خلل في انسجام واتساق تلك المكونات إنما ينشأ عنه أزمة في الهوية، تربك وجوده، وتشعره بلاجدوى.

والهويات الحقيقية إنما تستمد من أسس راسخة، لا تتغير بمرور الزمن؛ كالدين والأرض واللغة وتراث الأجداد، حينها يصبح الإنسان راسخا، ضاربا جذوره في العمق، مستقرا، يعي ذاته، ويدرك ما يريده والأهم يعرف ما يلائمه. فهو يتحرك في ثبات نحو تحقيق أهدافه، التي تتماشى وهويته، والهوية الحقيقية تتكون من جزأين، جذور عميقة، يولد بها الإنسان، موروثة من الأجداد، وجزء آخر يكونه بنفسه، منطلقا من رسوخ الجذور ومتماشيا معها، يضيف ويعدل، ينمو ويطور، دون أن ينكر تلك الجذور. بالضبط مثل شجرة جذورها عميقة تمتد لآلاف السنين، وتلك الجذور ينبت منها الساق والأغصان والأوراق بشكل مستمر، ومن ثم تؤتي ثمارها. فكل إنسان يولد وله جذور ضاربة في الأرض، والثمار هي ما يكتسبه طوال حياته، من حسن عنايته لأوراقه وإدراكه لتلك الجذور وتطويرها بما يتماشى مع الفطرة السليمة التي خلقنا عليها.

ولكن عصر ما بعد الحداثة، الذي نعيشه الآن، لا يؤمن بأية جذور، إنما يعمل على اجتثاثها وإلغاءها، وتحطيم كل مقدس، هذا العالم الحديث بشكله الحالي، المليء بالحروب، ومحاولات التطهير العرقي، والقتل والتدمير، إنما هو نتاج لعملية تدمير الأسس بداعي التطوير والتحديث، فإلغاء الأديان، وتحطيم الأخلاق والمباديء، وترك الرابط الوحيد بين الناس وبعضهم للمادة والمنفعة والحصول على متع لحظية، إنما ينتج عنه ما نراه الآن من انتكاس للفطرة الإنسانية التي خلقنا الله عليها.

فإذا كان العالم ما بعد الحداثي، يلغي الدين كمرجعية راسخة، ويفسد اللغة بعولمتها وتسطيحها، ويلغي المواطنة بدعم الفردانية والتمحور حول الذات، ويشكك في التراث ويهدم النماذج، فعلى الأغلب يستمد الإنسان الحديث هويته من السوبر ماركت. فهو يختار هويته التي يظن أنها تناسبه الآن، يستهلكها، ومن ثم يبحث عن هوية جديدة، أو يغرق في حيرة شديدة ويعجز عن اختيار هوية له.

الهوية إذا ما تم اختزالها في ما يملكه الإنسان من ممتلكات مادية، فأولا سيندفع الناس للشراء الاستهلاكي دون توقف، فالتسوق هنا لا يكون لسد حاجة أو اشباع رغبة، بل يصبح شرط الوجود.

هوياتنا هي ما نملكه

في عالمنا الحديث يهرع الإنسان لحصد الممتلكات، والتفاخر بها، لا كدليل على النجاح، بل كتحقيق شرط الوجود. فالهوس بالامتلاك، تخطى حدوده، وبات الإنسان الحديث يعرف برصيده البنكي وسيارته، مركزه الوظيفي، مكان السكن وطبيعته، والأهم الدليل المرئي لهذا الثراء والتحقق.

فالهوية إذا ما تم اختزالها في ما يملكه الإنسان من ممتلكات مادية، فأولا سيندفع الناس للشراء الاستهلاكي دون توقف، فالتسوق هنا لا يكون لسد حاجة أو اشباع رغبة، بل يصبح شرط الوجود. أنا اشتري إذا أنا موجود، وعلى هذا المبدأ تعمل الشركات وتروج لمنتجاتها، فنجد الإنسان الحديث قد تحول إلى آلة حصد، يراكم المادة دون توقف، وأي شعور يعتريه بالقلق أو الارتباك، يرجعه لنقص في المادة، ويعوضه بالشراهة في الاستهلاك. فلا ينتهي إحساسه بالقلق الناتج عن فراغ غياب هوية حقيقية، ولا يشبع من مراكمة المادة وامتلاكها والسعي المحموم للاستهلاك بشراهة.

ولأن الفراغ الناتج من غياب الهوية، لا يمكن أن يسد بالاستهلاك وامتلاك المزيد من المادة، يبقى الإحساس بالارتباك والانتقاص موجودا.

ثانيا، الهوية اذا استمدت مما نملكه، تصبح هوية هشة، مهددة بالزوال، فيعيش الإنسان المعرف بما يملكه في خوف دائم من أن يفقد علة وجوده. فالأشياء المادية لابد وأن تفقد معناها، إما بالزوال والخسارة، أو بفقدان بريقها لحظة الامتلاك، وفي كل الأحوال يتعذب هذا الإنسان الحديث بالسعي وراء حصد المادة كعلة وجوده، فلا يسكن له روع، ولا يقر له قرار.

الخطر يكمن في تلك الرغبة الملحة لحصد الإعجاب والظهور الطاغي، التي تصيب الأغلبية العظمى من مستخدمي منصات التواصل الاجتماعي

حساب منصات التواصل الإجتماعي، هوية العصر الجديدة

يقضي الإنسان الحديث أغلب يومه في تصفح طويل وبلا نهاية في منصات التواصل الإجتماعي، فهو يشاهد الآخرين وهم يعيشون تفاصيل حياتهم الدقيقية، ويشارك الآخرين عيش تفاصيل حياته الدقيقة، فتحولت حساباتنا على مواقع التواصل إلى هويات، يتم تعريف الفرد من خلالها، بل ويستمد جدوى وجوده منها، فنراه يكيف حياته عليها، وينتقي أنشطته لتلائم موضوعاتها.

كما أن حساباتنا الشخصية على منصات التواصل الآن، باتت مرآة تعكس حياة الإنسان الحديث، فعليها يعرف نفسه؛ عمله، حالته الإجتماعية، هواياته واهتماماته، ويشارك حياته اليومية، لا بشكل عام بل عن طريق عرض دقائق التفاصيل. وحتى هنا يبدو لهذا الأمر مزاياه وعيوبه، فأين يكمن الخطر إذن؟

الخطر يكمن في تلك الرغبة الملحة لحصد الإعجاب والظهور الطاغي، التي تصيب الأغلبية العظمى من مستخدمي منصات التواصل الاجتماعي، فإن كانت حياتي ليست مثيرة للاهتمام بشكل يجلب لي أكبر عدد من المتابعين والمعجبين وأكبر عدد من التفاعلات، إذن هناك خطأ ما في حياتي، وهنا يعتري الإنسان الحديث الشك في علة وجوده.

إذا كان إنسان العصر الحالي يقضي أغلب يومه في مشاهدة الآخرين، والإعجاب بما ينشروه، سيرغب حتما في أن يشاهده الناس وأن يحصد إعجاباتهم، وأن يقدم ما يقدموه من محتوى، بل وسيرغب بشدة أن يعيش نفس المشاعر تلك التي يتحدثون عنها، فحتى أكثر المشاعر خصوصية وحميمية، تفقد خصوصيتها على منصات التواصل الاجتماعي، بل ويتم عرضها بالصوت والصورة. وهذا يجعلك مستنفرا طوال الوقت، تريد أن تعيش التجربة، لا لأنك ترغب في عيشها، بل كي تقوم بنشرها، قائلا: ها أنا أعيش حياتي بسعادة مثلكم، والأهم أن تحصد حياتك الإعجاب، وتكون محط الأنظار. والتجربة هنا إشارة مفتوحة لأنشطة الحياة المختلفة؛ من الأكل والاستمتاع بزيارة أماكن جديدة إلى اختبار الصداقة، والوقوع في الحب وعيش قصة رومانسية، وحتى مشاعر الأبوة والأمومة، فكل شيء يعرض بالتفاصيل، كأنما يحتاج الإنسان الحديث إلى مراكمة الأدلة على أنه يحيا حياة زاخرة بالسعادة.

وفي النهاية يلجأ الإنسان المحاط بالصور والقصص المنشورة ومقاطع الفيديو القصيرة تلك، إلى تزييف التجربة كبديل سريع لمحاكاة ما يراه طوال الوقت، وينتهي الأمر بشكل مأساوي إلى حياة مزيفة بالكامل، تبدو كصورة بهية على منصات التواصل الاجتماعي؛ مكتملة وشديدة اللمعان، وبعد الوقت المحدد للتصوير والتوثيق، تذوب الملامح، تلملم السعادة مظاهرها، وتترك الحياة الواقعية في بؤس وعوز وافتقار شعوري وربما مادي أيضا.

فالهويات الحديثة المستمدة من منصات التواصل الإجتماعي، تعتمد أولا على عرض تفاصيل الحياة الشخصية وجعلها مشاعا لعامة الناس، وثانيا الظهور المتألق بشكل دائم، لحصد المتابعين والإعجابات، فيصبح عدد المتابعين هو الهوية الأساسية الجديدة "مرحبا أنا أحمد عندي مليون متابع وأنت؟!" وإذا كانت حياتك المنشورة، بتفاصيلها الإجتماعية والعاطفية والعملية، لا تحصد الإعجاب –لا سمح الله- إذن أنت غير موجود.

فالهويات الحديثة التي يحاول الإنسان الالتجاء إليها لمواكبة التطور والسرعة المجنونة التي يسير بها كل شيء، إنما هي أزمة هوية في أصلها وليست هوية حقيقية، والاستناد عليها إنما يشبه من يحاول سد الفراغ بالفراغ.

فلماذا نعتمد على هويات حديثة شديدة الهشاشة؟ وكيف تحدث أزمة الهويات؟ وما علاقة غياب الهوية بالاحتلال والمحتلين في عصرنا الحديث؟ ربما نتناول هذا في مقالات قادمة بإذن الله.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.