شعار قسم مدونات

فلسطين أيقونة الحرية الجديدة للشباب الغربي

متظاهرون في لندن يطالبون بوقف إطلاق النار في غزة فورا (غيتي)

شهد العالم صعود صاعق لموجة من التأييد لفلسطين والفلسطينيين بين الشباب في مختلف دول العالم، وهذا ما ضغط باتجاه تغيير العديد من المواقف الدولية من دعم العمل العسكري إلى البحث عن هدنة إنسانية أو وقف الحرب. لكن ما يقف خلف ذلك حسب ما يرى المراقبون هو انقلاب الرأي العام خاصة لدى الشباب. بينما هرع القادة الغربيون الى إسرائيل مظهرين الدعم والتعاطف، لجأ الشباب الى وسائل التواصل الاجتماعي بحثاً عن الحقيقة.

عملت الآلة الإعلامية الغربية على مدى عقود لتعزيز مواقف الدول الغربية، وتشويه صورة الأعداء بمختلف طوائفهم او أماكنهم. لكنها تركت مجالاً لشيطنة الحكومات بصفتها مخفياً للحقيقة في كثير من الأحيان. وظهرت العديد من الأعمال السينمائية التي تفترض أن الحكومة تخفي أمرا أو تشوه حقيقة، حتى باتت نظريات فقدان الثقة بالرواية الرسمية ملعبا لكثير من المهووسين في عدة بلدان. وكان من نتاج هذه الآثار الجانبية ميل الجيل الجديد من الشباب للبحث عن أكثر النظريات اختلافا عن الرواية الحكومية لتبنيها.

هنا برز دور وسائل التواصل الاجتماعي بصفتها وسيلة لتناقل الأخبار والأفكار بعيدا عن الرواية الرسمية، مساحة يمكن للشباب الحديث فيها بما يعتقدونه ويفكرون به دون رقيب أو حسيب. وما تبحث عنه هذه الأصوات هو قضية لا تدع للشك مجالا في زيف الرواية الرسمية بالطبع.

كان تشي غيفارا أيقونة البحث عن الحرية لعدة أجيال، حيث مثل بزيه المميز وخطاباته القوية وسنه المقارب للشباب، كل ما يمكن أن يؤثر في الشباب ويدفعهم لتبني صورته في محافل البحث عن الحرية ودعم المظلومين. وهذه الأيقونة كمثال تبرز احتياج الشباب في البلدان الغربية لمثل هذه الصورة الذهنية التي تلامس إحساس الحرية ونصرة المظلومين.

 

وسائل التواصل الاجتماعي كانت خنجرا مسموما في صدر الرواية الإسرائيلية، حاولت إسرائيل في البداية الضغط باتجاه الإعلانات والوسائل الإعلامية المرئية والمسموعة والمقروءة بشكل مستقر وواضح.

وسائل التواصل الاجتماعي تدخل الحرب

مع بداية العدوان على قطاع غزة في فلسطين من قبل إسرائيل كانت الرواية الغربية المدعومة بملايين الدولارات من الإعلانات الإسرائيلية تحاول خلق تأييد عالمي لها. وكما أخطأت التقديرات الإسرائيلية في التصدي لعملية المقاومة في السابع من أكتوبر، فقد أخطأت في تقدير التعامل مع الرأي العام العالمي. حيث افترضت إسرائيل أنها قادرة على السيطرة وتوجيه الرأي العام الغربية كما فعلت في حروبها السابقة، إذ تمتلك نفوذا في مختلف وسائل الإعلام ومفاصل الدول الغربية. باستخدام هذا النفوذ سوف يعلم المواطن في هذه الدول بما تريد إسرائيل قوله له فقط.

لكن وسائل التواصل الاجتماعي كانت خنجرا مسموما في صدر الرواية الإسرائيلية، حاولت إسرائيل في البداية الضغط باتجاه الإعلانات والوسائل الإعلامية المرئية والمسموعة والمقروءة بشكل مستقر وواضح. لكن المادة الإعلامية والإعلانية الموجهة أصبحت غير مؤثرة في المتلقي لذلك عمدت الى المؤثرين وأصحاب الرأي لإغرائهم بالمال لدعم روايتهم.

بما أن أغلب المؤثرين عبر وسائل التواصل الاجتماعي كانوا من الشباب فقد كانت مهمة إسرائيل صعبة جدا، المؤثرين عبر وسائل التواصل الاجتماعي مختلفين كليا عن ممثلين السينما او السياسيين البارزين. عندما يدعم الجمهور ممثلا أو سياسيا فهم يدعمون ما يقدمه وينتظرون منه الحفاظ على نفس الأداء، لكن مؤثرين وسائل التواصل الاجتماعي يقدمون المحتوى الذي يريده الجمهور ويلبون تطلعاتهم. ولا يمكن ان يخاطر المؤثرين بسقوط شعبيتهم التي تحقق لهم مكاسب مالية ومعنوية كبيرة امام أموال إسرائيل الا إذا كانوا من المناصرين لها سابقا أو من ضعاف النفوس. وربما تجد أن الفيديوهات التي ينشرها المؤثرين عن رفض أموال إسرائيل قد تحقق لهم أضعاف المبلغ المعروض عليهم، مما يجعل استمالة هذه الأداة الإعلامية الخطيرة أمرا بالغ الصعوبة بالطرق التقليدية.

لجأت إسرائيل لعدة روايات كانت مؤثرة في بداية العدوان منها قطع رؤوس الأطفال وحرقهم ومختلف الجرائم التي تم ترويج رواياتها ولم تثبت أو تم اثبات كذبها. هذه الروايات شكلت المادة الإعلامية التي أوقفت الكثيرين في حيرة، ولكن الوقت الذي يمر يجعل صمود هذه الروايات بالغ الصعوبة. ولذلك كانت خطة الردع العسكري القاسي والعقاب الجماعي السريع والمدمر قد بدأت بدون رقابة دولية ومع ضوء اخضر غربي.

ونظرا لحاجة إسرائيل لاتباع سياسة الرد القاسي وفقرها للأهداف العسكرية الحقيقة تخبطت آلتها الحربية وبدأت ترتكب مجازر لا يمكن تغطيتها، بداية من مشفى المعمداني الذي قال عنه جو بايدن: "متأكد أن إسرائيل لم ترتكب هذه الجريمة" ومرورا بما بعدها. تتبرأ المواقف الرسمية من استهداف المشافي والمدارس لكنها الأهداف التي تقصفها إسرائيل فإلى متى يمكن للسياسيين إنكار حدوث هذه المجازر.

 

يعيش الشباب الغربي حاجة ماسة لهدف سامي للحياة، مساحة للنضال في وجه الظلم والحرب. هذه الحالة التي لم يعشها لأنه لم يجد نفسه في حرب عالمية أو أمام قضية واضحة كقضية تشي غيفارا

أيقونة الحرية الجديدة

الصورة بألف كلمة، الصور التي انتشرت لأطفال غزة يقتلون تحت القصف الإسرائيلي شكلت تعاطف لا يمكن تجاوزه لدى الرأي العام العالمي، وبينما لم تجد إسرائيل جرائم مزعومة تصورها وترسلها للإعلام كانت ضحاياها تجوب أروقة منصات التواصل الاجتماعي شاهد ودليل على جرائمها. تلك المواد الإعلامية التي لم تستطع إسرائيل التحكم بها بالوسائل التي تعرفها جعلت الوقت الذي يمر كأنه سكين تمزق روايتها.

التقطت وسائل التواصل الاجتماعي هذه الصور والمواد المرئية لتنقلها وتعزز لها بمختلف الطرق، حيث بدأت تنهض من جديد أيقونة واضحة لا لبس فيها للحرية والمظلومين. من هنا بدأت تتكون أيقونة الحرية الجديدة.

يعيش الشباب الغربي حاجة ماسة لهدف سامي للحياة، مساحة للنضال في وجه الظلم والحرب. هذه الحالة التي لم يعشها لأنه لم يجد نفسه في حرب عالمية أو أمام قضية واضحة كقضية تشي غيفارا سابقة الذكر. وبينما لم تنجح الآلة الإعلامية في تصدير أوكرانيا كقضية حرية تلامس وجدان الشباب الغربي، لم تستطع نفس الآلة الإعلامية منع فلسطين من أن تكون هذه القضية التي تمثل رفض الظلم والعدوان ونصرت المقاومة.

تحتاج أيقونة الحرية فلسطين كي تعيش وتؤثر في الشباب الغربي إلى معالم واضحة منها الملابس والصورة الذهنية وصدق المشاعر. في العالم العربي أصبحت صورة الملثم تمثل القضية الفلسطينية بخطابه القوي وظهوره المؤثر وبياناته الصريحة، لكنها أيقونة من الصعب تصديرها للغرب لذلك بحثت وسائل التواصل الاجتماعي عن أيقونات بديلة تمثل القضية الفلسطينية. كان من أبرزها رقصة الشاب الفلسطيني على أنغام أغنية تحيا فلسطين.

كما أن الملابس الفلسطينية الخاصة وعلى راسها الكوفية تمثل بصمة واضحة حاربتها الحكومات الغربية بطريقة غبية، حيث دفعت القوانين التي تمنع لبسها الشباب الباحث عن التحدي والمقاومة للتوشح بها. بل أصبحت أيقونة إضافية لدعم ومناصرة قضية حق لا يختلف فيها اثنين.

القضية العادلة والتاريخ الطويل من الكتمان ومئات آلاف الصور والفيديوهات التي تثبت أن الفلسطينيين هم القضية الحقيقية للحرية، كلها شكلت نهوض أيقونة الحرية الجديدة، تلك التي أصبح الشباب الغربي خاصة يهتم بها ويستخدمها كبوابة لتصدير صورة عن هويته المقاومة وبحثه عن الحقيقة والسلام.

 

لقد تبنت وسائل التواصل الاجتماعي هذه القضية، وستحمل شعلة الحرية لفترة طويلة لا يمكن تقديرها. الترجمة لكل لغات العالم، الأغاني غير العربية التي تحمل صوت الفلسطينيين، الكوفية والزي المقاوم. كل هذه الأدوات سوف يستخدمها مناصري القضية الفلسطينية بشكل مستمر وفي كل وقت.

الرأي العام بين الحاضر والمستقبل

تكمن أهمية ميول الشباب الغربي لنصرة القضية الفلسطينية ليس في الدعم بالمظاهرات والشعارات والأغاني في الفيديوهات أو لبس الكوفية، بل تكمن في أنه سيكون قريبا جدا مؤثرا في الانتخابات واختيار القيادات السياسية وربما يكون بعضهم جزءا منها. هذا الصعود الكبير لأيقونة الحرية الجديدة بين الشباب أصبح خطر لا يمكن إيقاف بالوسائل التقليدية، لأن مجرد مقاومته سوف يزيد من شغف الشباب باتباعه.

بينما كان القادة الغربيين يعلمون أن مفاصل القرار السياسي في بلدانها يتم صنعها بأيدي مناصريهم، لم يتوقعوا أن يصبح الشباب خطرا يهدد استمرارهم أو استمرار مناصريهم. من هنا بدأت تنخفض حدة التصريحات وتم السماح بمظاهرات أكبر لتفريغ طاقة الغضب واحتواء الرأي العام.

لا يوجد مثال أوضح من الموقف الفرنسي، حيث هرعت قيادات فرنسا إلى إسرائيل تدعمها وتمدها بكل ما تريد في بداية العدوان، ثم انتهت إلى مطالبة بهدنة إنسانية، وأخيرا مؤتمر لدعم غزة. هذا التغير لن يكون قادر على احتواء الأيقونة الجديدة من التأثير في انتخابات المستقبل بالتأكيد.

ربما يتوقع صناع القرار أن هذه الموجة سوف تنتهي بنهاية العدوان لكن جميع المؤشرات تؤكد العكس، حيث أن أسطورة تشي غيفارا عاشت عشرات السنين. وأيقونة الحرية الجديدة تلبي كل طموحات الباحثين عن الحرية والمقاومة بين أوساط الشباب الغربي. لذلك فإن أصداء هذه الموجة المعرفية الهائلة بواقع فلسطين وتاريخها وما يحصل فيها سوف تعلق في ذاكرة أجيال كثيرة قادمة.

لتحيى أيقونة الحرية الجديدة.. فلسطين

لقد تبنت وسائل التواصل الاجتماعي هذه القضية، وستحمل شعلة الحرية لفترة طويلة لا يمكن تقديرها. الترجمة لكل لغات العالم، الأغاني غير العربية التي تحمل صوت الفلسطينيين، الكوفية والزي المقاوم. كل هذه الأدوات سوف يستخدمها مناصري القضية الفلسطينية بشكل مستمر وفي كل وقت.

سوف تتذكر وسائل التواصل الاجتماعي وجوه الأطفال، بكاء الآباء والأمهات الثكالى، صورة المقاوم أمام الدبابات والطائرات. سوف تجوب صور المجازر أروقة أحزاب الدفاع عن الحرية والمؤتمرات الدولية. وسوف ينهض جيل يحمل أيقونة الحرية الجديدة فلسطين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.