شعار قسم مدونات

رؤية ابن السبكي لإصلاح مؤسسة القضاء

حذر ابن السبكي القاضي من الحكم لأحد لغرض من أغراض الدنيا، وهو يعلم أنه حكم غير الله تعالى. ( مواقع التواصل)

قدم ابن السبكي رؤيته الإصلاحية لمؤسسة القضاء في كتابه: (معيد النعم) بناء على خبرته العملية فيها، فذكر أبرز أفراد هذه المؤسسة، وما يجب عليهم القيام به مما يصلح حال هذه المؤسسة، وكان ممن ذكرهم:

1-  القضاة: دعا ابن السبكي إلى إصلاح حال القضاة من خلال ما يأتي:

  • رد الهدايا: بدأ الحديث عن إصلاح مؤسسة القضاء بالإشارة إلى الفساد الذي استشرى بين القضاة زمنه، وخصَّ من ذلك ما شاع من قبولهم الهدايا من الناس، وهي من الرشوة والبرطيل التي شاعت زمن المماليك، وطالت كل أحد حتى القضاة أنفسهم، وقد ذكر ابن السبكي أن قبولها لا يجوز للقاضي؛ إلا من الملوك الذين يصل إلى القاضي إنعامهم، ولا يقصدون بذلك استمالة خاطره لقضاء حوائجهم عنده؛ بل لقد وضع شرطين لجواز قبول القاضي هدية الملوك أولهما: أن يجد القاضي نفسه قبل الهدية كهو بعدها، وثانيهما: أن تكون من عادة الملك إهداء من هو في منصب القاضي.
  • تفهيم السلطان القضية: يجب على القاضي تفهيم السلطان الحكم الشرعي للقضايا التي ترفع إليه، وأن ذاك الحكم هو الدين الذي إن حاد عنه هلك، وإن اعتمده نجا، وقد كان السلاطين كثيرا ما يرجعون للقضاة لأخذ موافقتهم على أمور يريدون الإقدام عليه، وذلك كفرض بعض الضرائب على الناس وقت الحروب، أو لمصادرة أموال أحد الناس، ونحو ذلك، وكان كثيرا ما يوافق القضاة على مثل تلك الأمور لا سيما فرض الضرائب وقت الحروب؛ إلا ما كان من العز بن عبد السلام والنووي وابن دقيق العيد وغيرهم، فكان أن نبه ابن السبكي القضاة إلى واجبهم في بيان حكم الشرع في تلك القضايا، وأن الأخذ به سبب النجاة في الدنيا والآخرة.

    حذر ابن السبكي القاضي من الحكم لأحد لغرض من أغراض الدنيا، وهو يعلم أنه حكم غير الله تعالى، وحذره أن تسول له نفسه أنه لم يجزم بالحرمة، حتى لا يكون القاضي الذي عرف الحق وحكم بخلافه.

  • المحافظة على الأوقاف: من واجبات القاضي النظر في أمر الأوقاف والمحتاجين لها، وبيَّن أن هذا العمل مختص بقاضي قضاة الشافعية لأنه كبير القضاة في دولة المماليك، وقد نبه ابن السبكي القضاة إلى هذا الواجب؛ لـما شاع زمنه من كثرة الاستيلاء على الأوقاف التي كثرت زمن المماليك خاصة، وكان من أهم أسباب كثرتها: هروب الناس من الضرائب التي فرضت على كل شيء إلا على الهواء الذي أخلي سبيله، فكان الناس يهربون من ذلك بوقف أملاكهم.
  • عدم الخضوع للتدخلات الأميرية: حذر ابن السبكي القاضي من الحكم لأحد لغرض من أغراض الدنيا، وهو يعلم أنه حكم غير الله تعالى، وحذره أن تسول له نفسه أنه لم يجزم بالحرمة، حتى لا يكون القاضي الذي عرف الحق وحكم بخلافه، وخوفه الوقوف بين يدي الله يوم القيامة وسؤال الله له: لم حكمت بهذا الأمر؟ ومن بلغك عني؟ ثم قال للقاضي: "فكن على حذر، ولو طلبه منك أكبر ملوك الأرض بملئها ذهبًا"، وقد كانت التدخلات الأميرية في أقضية القضاة شائعة في دولة المماليك، لا سيما إذا ما كان القاضي قد تولى المنصب بالبرطيل.ذم القضاة المرتشين: لم يغفل ابن السبكي عن ذكر طائفة من العلماء سعوا بالبذل والبرطيل إلى تولي القضاء، وذلك من ابن السبكي تأكيد على ما ذكره مؤرخو دولة المماليك من شيوع بذل الرشوة والبرطيل لنيل المناصب حتى من القضاء أنفسهم، وقد كانت الطائفة التي ذكرها ابن السبكي تدعي أنها أكرهت على القضاء فقال وهو العالم بهم: "وأنا لم أر إلى الآن من أكره على القضاء الإكراه الحقيقي"، وأما عن أقضيات من بذل البرطيل لنيل المنصب فقال فيه: "ومذهب كثير من العلماء أن من يبذل الذهب على القضاء لا تصح أحكامه". قال الكاساني (ت:587ه) في ذلك: "لأنه إذا أخذ على القضاء رشوة؛ فقد قضى لنفسه لا لله عز اسمه، فلم يصح". ثم قال ابن السبكي ناصحا هؤلاء: "ينبغي لكل ذي فن أن يتخذه سبيلا إلى النجاة، ومرقاة إلى الزلفى عند اللَّه تعالى، لا صنعة يتهوَّس بها؛ بل مرقاة يتوصل بها إلى الملأ الأعلى".

    2- وكلاء دار القاضي (المحامون): عرفهم ابن السبكي بأنهم أناس نصبوا أنفسهم لخلاص حقوق الناس، أي إنهم لم يكونوا من التابعين لمؤسسة القضاء في دولة المماليك، وإنما فرض هؤلاء أنفسهم على المؤسسة، وذكر ابن السبكي من حالهم أنه قد ذمهم أناس، ومدحهم أناس، ذمهم أناس لأنهم كانوا كثيرا ما يبتزون أموالهم بالمنافحة عنهم، ومدحهم أناس كانوا عاجزين عن عرض حجتهم والدفاع عن حقوقهم أمام القاضي فتولى هؤلاء ذلك؛ فقال ابن السبكي فيهم: "والحق عندنا أن من أرادَ منهم وجه اللَّه تعالى محمود وإن تناولَ أجرته، ومن أراد الخصام وإبطال الحقوق مذموم".

    ثم ذكر ما يصلح حال هؤلاء باعتبارهم وكلاء ومنه: أن يفقه من موكله حقيقة الواقعة، ويعرف الحق في أي الطرفين فلا "يتوكل على الـمحق معتذرا بأنه وكيل، ولا يبدي من الحجة إلا ما يعرفه حقا، أو يقوله له الموكل وهو يجهل الحال فيعتمد عليه، فإن علمه باطلا وأدلى به فهو في جهنم".

    وقد ذم واحد من العلماء هؤلاء الوكلاء، وصدرت عدة مراسيم من السلاطين للقضاة بمنع جلوس هؤلاء الوكلاء بأبوابهم، قال ابن الإخوة (ت:729ه) فيهم: "أما الوكلاء الذي بين يديه فلا خير فيهم، ولا مصلحة للناس بهم في هذا الزمان، فإن أكثرهم رقيق الدين يأخذ من الخصمين شيئا، ثم يتمسكون فيه بسبب الشرع، فيوقفون القضية فيضيع الحق، ويخرج من بين يدي طالبه وصاحبه"، وقال فيهم السيوطي (ت:911ه): "لا ترد أحدا منهم إلا خليا لويا، أو خادعا خلويا، وإذا اعتبرت أحوالهم وجدوا عذابا على الناس مصبوبا، ولا يتم لهم إلا في ستر القضايا ونعيمها، ولا ينحون في شيء منها إلا نحو إمالتها وترخيمها"، ولعمر الله هذا حالهم قديما فماذا يقال في أكثرهم هذه الأيام.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.