شعار قسم مدونات

النموذج الماليزي في الحكم بين الإسلامية والعلمانية (3)

مهاتير محمد
رئيس الوزراء الماليزي السابق مهاتير محمد (وكالة الأنباء الأوروبية)

يحث حزب باس الإسلامي في ماليزيا منذ عقود على تطبيق الحدود في المحاكم الشرعية لولاية كيلانتان شمال شرق البلاد التي يحكمها الحزب منذ سنوات، وتعد ولاية إسلامية بمظاهرها العامة، مع وجود أقليات صينية وهندية في الولاية.

أيما حديث عن النموذج الماليزي لا يولي شخصية الدكتور مهاتير محمد الأهمية التي تستحق؛ فسيظل حديثا منقوصا، بل ربما ساقطا، وذلك لمحورية هذه الشخصية ودورها الأساس في بناء ماليزيا الحديثة

وبرغم كل ما تقدم فإن من المفارقة أن يصر بعض الباحثين على وصف النموذج الماليزي بأنه "علماني معتدل"، مستشهدا بما يؤكد -في الواقع- فرضية انتفاء علاقته بالعلمانية، وليس العكس، بل إن نحن نظرنا إلى المظاهر التي ساقها الباحث مثل:

  • "انتشار الحجاب في أوساط نساء الحزب الحاكم، وظهور المذيعات المحجبات على شاشة التلفزيون قبل أي من البلدان الإسلامية، وإنشاء البنوك والشركات الإسلامية، والجامعة الإسلامية العالمية، ووجود المئات من المدارس الدينية في كل مكان في ماليزيا، والتي يؤمها معظم أطفال المسلمين بعد انتهاء دوامهم من المدارس العادية، وصدور قانون للطعام الحلال، وقانون آخر يمنع "الخلوة" بين الرجل والمرأة المسلمين. وكان من مظاهر اعتدال الحكم أن الدولة لم تلجأ إلى قمع التيارات الإسلامية السياسية أو مطاردتها، وإنما فضلت أسلوب التعايش والاحتواء، والتنافس الذي قد يستخدم بعض أدوات السلطة (ربما الإعلامية أو الاقتصادية..) لكنه لا يلجأ إلى العنف".

إن نحن نظرنا إلى هذه  المظاهر في ضوء الوضع الماليزي ومظاهر الأسلمة التي تتبناها الدولة؛ فسنجدها لا تشير إلى نموذج علماني، حتى لو وصف بالمعتدل، بل إلى تأكيد تبني الدولة لمعظم تلك التوجهات، وتشجيعها، وهو عكس المفهوم العلماني تماماً،  ولهذا فإنك حين تجد مؤسسات وشركات  ترعاها الدولة -وليس القطاع الخاص -مثل البنوك الإسلامية، والجامعة الإسلامية العالمية، وقوانين تصدر عن الدولة  مثل قوانين الطعام الحلال، وتحريم الخلوة بين الرجل والمرأة المسلمين، هذا وأمثاله ينفي عن النظام السياسي صبغة العلمانية، مادام أنه هو من يتبنى مثل  تلك القوانين والمؤسسات ويدعمها بوصفها مؤسسات حكومية، وهذا هو الفرق الجوهري بين مجرد السماح بإنشاء مثل بعض تلك المؤسسات، كما في عدد من الدول الأوروبية والولايات المتحدة، من منطلق علماني، وبين أن تتبناها الدولة وتنفق عليها، كما هو الشأن في عدد من تلك المؤسسات في ماليزيا.

أما سماح الدولة -ممثلة في حزب أمنو- للأحزاب الإسلامية بالحضور والمشاركة السياسية وعدم لجوئها إلى العنف مع تلك الأحزاب؛ ففي هذا تجاهل لحقيقة مدى القوة والضغط الشعبي والجماهيري الذي تحظى به الأحزاب الإسلامية هنالك، إلى الحد الذي يدفع بحكومات أن تتبنى المشاريع ذاتها التي تنادي بها هذه الأحزاب -وإن بطريقتها- كما فعلت حكومة عبد الله بدوي (2003-2009م) -مثلا- حين تبنت مشروع "الإسلام الحضاري"، لتفويت الفرصة على حزب باس -كما سبقت الإشارة-.

رغم أن مهاتير لم ينخرط في إطار الحزب الإسلامي (الماليزي) المعروف اختصارا بـ(باس) ولا غيره من الأطر الإسلامية مثل (أمانه)، بل ظل ينتمي إلى ائتلاف وطني كبير هو (المنظمة الوطنية الملايوية المتحدة) أمنو، لكنه  لم يعرف مجاهرا بأية مواقف معادية للدين

  • مهاتير محمد وشهادته في مذكراته:

أيما حديث عن النموذج الماليزي لا يولي شخصية الدكتور مهاتير محمد الأهمية التي تستحق؛ فسيظل حديثا منقوصا، بل ربما ساقطا، وذلك لمحورية هذه الشخصية ودورها الأساس في بناء ماليزيا الحديثة، فمهاتير -بنظر  أغلبية الماليزيين وكثير من المتابعين داخل ماليزيا وخارجها- باني نهضة ماليزيا المعاصرة، وصاحب الامتياز في نموذجها  الشهير بـ" الحكم الرشيد"، وليس أدل على ذلك من كون الشعب الماليزي في أغلبيته قد أعاده لقيادة البلاد في 2018م، وذلك عقب فوز حزبه في الانتخابات العامة في التاسع من شهر مايو/أيار في العام ذاته، رغم بلوغ سنه 92 عاما- حينذاك-، بعد اعتزاله  السلطة طواعية في 2003م، ومع ذلك فقد قدم استقالته من رئاسة الحكومة إلى ملك البلاد في 24/2/2020م لاحقا، بعد تنامي خلافات داخل الائتلاف الحاكم، وتم قبول الاستقالة.

ورغم أن مهاتير لم ينخرط في إطار الحزب الإسلامي (الماليزي) المعروف اختصارا بـ(باس) ولا غيره من الأطر الإسلامية مثل (أمانه)، بل ظل ينتمي إلى ائتلاف وطني كبير هو (المنظمة الوطنية الملايوية المتحدة) أمنو، لكنه  لم يعرف مجاهرا بأية مواقف معادية للدين، أو معترضة فلسفته الكلية، أو مناديا بالعلمانية بديلا، أو نحو ذلك، بل على العكس من ذلك كما سنرى في السطور التالية.

قرّر مهاتير في مايو/أيار 2008م، تقديم استقالته من الحزب، بسبب خلافه مع خليفته في رئاسة الحكومة المستقيل عبد الله بدوي، غير أنه عاد مجددا للحزب في أبريل/نيسان 2009م، وكان ذلك بعد يوم من أداء نجيب عبد الرزاق اليمين القانونية رئيساً جديدا للوزراء بماليزيا. وعلى خلفية اتهامات بالفساد لحكومة عبد الرزاق في سبتمبر/أيلول 2013؛ وجه مهاتير انتقادات لاذعة للحزب الحاكم، ووصفه بأنه حزب هرم ومريض، وأنه في طريقه للزوال إن بقي على السياسات نفسها التي يمارسها، وقال في مقال نشرته صحيفة "أوتوسان" التابعة للحزب نفسه "إن معظم قادة الحزب هرمون، وهم خارج الاتصال مع ما تمليه متطلبات العصر، والحزب يعاني من الشيخوخة وسيواجه قريبا نهايته، هذه هي الطبيعة البشرية عاجلا أم آجلا، سوف يواجه البشر نهايتهم".

من هنا لم أدهش، وأنا أقرأ شهادة الدكتور مهاتير محمد في تجربة ماليزيا الرائدة في الحكم والتنمية والتعايش، حين قال في مذكراته: "كان الإسلام ولايزال في نظري دينا متسامحا مع وجود الأديان الأخرى وأتباعها. وحين قرأت لاحقا تراجم معاني القرآن الكريم، باللغتين الملاوية والإنكليزية وجدت سورة كاملة هي سورة (الكافرون)، تثبت أنني لم أكن مخطئا في افتراضي المتعلق بموقف الإسلام من الأديان الأخرى، جاء في تلك السورة: {قل يا أيها الكافرون. لا أعبد ما تعبدون. ولا أنتم عابدون ما أعبد. ولا أنا عابد ما عبدتم. ولا أنتم عابدون ما أعبد. لكم دينكم ولي دين} (الكافرون:1-6)".

يؤكد مهاتير محمد على رفضه للعلمانية وتبنيه لمبدأ الدولة الإسلامية بمعزل عن قدرته الفعلية على تطبيق ذلك في ظل حكومته وإلى أي مدى فيقول: "ربما لانطبق في ماليزيا ما تنص عليه الشريعة في كل حالة، وإنما نطبق قوانين آخرين، لكننا نتبع تعاليم الإسلام بدفاعنا عن توفير العدالة للجميع في هذا البلد المتعدد الأديان، وإبقائنا الأمة بعيدة عن الصراع، وانعدام الأمن. وبالمثل بتسامحنا مع الأديان الأخرى نكون ملتزمين بتعاليم الإسلام أيضا. وفي الواقع تمسكت الحكومة بالمبادئ الإسلامية في جميع أعمالها. لذلك لدينا كل الحق في وصف ماليزيا بأنها دولة إسلامية، والإسلام وأسلمة الإدارة الماليزية لم يكونا محل نزاع من قبل.

والحقيقة هي أنه في الفترة التي تبنت فيها ماليزيا القيم الإسلامية وأعلنت أنها دولة إسلامية ساد السلام والاستقرار، وتطورت البلاد، ونمت على نحو لم يسبق له مثيل".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.