شعار قسم مدونات

بين حال الأمة قبل صلاح الدين الأيوبي وحالنا اليوم

محتجون من مختلف الجنسيات يشاركون في مظاهرات في بروكسل للتضامن مع فلسطين (الأوروبية)

العجز الذي تعيشه الأمة اليوم ويشعر به شبابها ورجالها ونساؤها أمام أحداث غزة وطوفان الأقصى إحساس قاتل، وشعور باعث على القنوط واليأس الذي لا يعرفه المؤمن، وإنما هو – كما قرر القرآن الكريم – من صفات الكافرين والضالين؛ فالمجازر التي يرتكبها العدو الصهيوني بحق أهلنا في غزة على مدى جاوز الشهور الأربعة في ظل تخاذل عالمي، وتآمر عربي لا يجد عموم المسلمين اليوم شيئا يقومون به يتحقق به ردع العدو ونصرة المظلوم.

فهل مرت الأمة المسلمة في تاريخها بظروف مماثلة؟ فصلاح الدين الأيوبي حرر بيت المقدس، فهل كانت ظروف الأمة قبله لها وجه شبه بحالنا اليوم، وكيف كانت خطوات التحرير، وكيف واجه صلاح الدين الأيوبي هذا الشعور، وكيف تعامل مع الحالة التي كانت عليها الأمة في عصره؟ هذا ما يدعونا إلى قراءة التاريخ والوعي به، ومن ثم السعي بمقتضاه، فمن وعى التاريخ في صدره أضاف أعمارا إلى عمره، ومن لم يعِ التاريخ في صدره لم يدرِ حُلو العيش من مُره.

تقسيم الأمة واحتلالها الصليبي

كانت الحملات الصليبية على أشدها قبل أن يأتي صلاح الدين، وكان "الفرنج" – كما يسميهم المؤرخون – يعيثون في الأرض فسادا، وقتلا وتشريدا، وإفسادا للحرث والنسل، ولم تزد الأمة خلال هذه الحملات إلا تشرذما وتقسيما، قتقسم المقسم وتجزأ المجزأ، وظهرت الخيانات والعمالات من بعض ولاة المسلمين للعدو المحتل الغازي؛ خوفا على ملكهم، وطمعا فيما عند "الفرنجة".

لم يبدأ صلاح الدين الأيوبي من فراغ حين أكمل مسيرة من قبله بمعركة حطين التي تحرر بها بيت المقدس، وإنما كان تتويجا لسلسلة من الجهود الربانية المباركة التي سبقته في العمل الدؤوب، والعطاء المتواصل، والجهاد العلمي والتربوي المستمر.

والناظر لحال أمتنا اليوم يجد حالها مشابها لهذه الحال؛ فعالمنا العربي – على الأقل – محتل بالوكالة، ومقسم وممزق، وسنشهد في الأيام القادمة مزيدا من التقسيم والتشرذم، وكل هذا مخطط له ومعد من ذ عقود من الزمان، كما نجد خيانات وعمالات من بعض حكام العرب الذين تآمروا على فلسطين، وتبعوا أذناب البقر، وتركوا الجهاد في سبيل الله تعالى، فهم بحاجة – كما ثبت في الحديث الشريف – أن "يراجعوا دينهم"، أو "يرجعوا إلى دينهم".

العمل على تكوين رؤية مشتركة ونبذ الخلاف.. سلسلة من المصلحين

لم يبدأ صلاح الدين الأيوبي من فراغ حين أكمل مسيرة من قبله بمعركة حطين التي تحرر بها بيت المقدس، وإنما كان تتويجا لسلسلة من الجهود الربانية المباركة التي سبقته في العمل الدؤوب، والعطاء المتواصل، والجهاد العلمي والتربوي المستمر.

فهذا عبد القادر الكيلاني الذي جعل شعاره: "لكل مذهبه الفقهي والفكري، وهدفنا واحد هو تحرير القدس من الصليبييين"، واعتمد منهجية: "صناعة الإنسان على مائدة الإيمان"؛ حيث فتح مدرسته ببغداد ليربي فيهلا جيلا انطلق في ربوع العالم الإسلامي ليفتحوا "400" مدرسة على نفس الشعار والمنهجية؛ مستفيدا في ذلك من تجربة شيخه أبي حامد الغزالي، وأعانهم في هذا الوقف الخيري الذي وفر لوازم هذا العمل المهم، وهنا تبرز أهمية الوقف والحاجة له في الإسناد والإمداد.

وظل هذا العمل مستمرا حتى ربى جيلا موحد الرؤية، وكانت المرأة ركيزة مهمة فيه؛ حيث ذكر ماجد عرسان الكيلاني أنه تربت حوالي "800" امرأة في هذه المدرسة، وتخرجن فيها، وأضعاف ذلك من الشباب، حتى جاء نور الدين محمود زنكي، وأكمل هذه المسيرة المباركة، وهيأ الأمور للتحرير الصلاحي تربويا وعسكريا وتوحيديا، لكنه لم ير هذا التحرير، وجاء صلاح الدين الأيوبي على رأس جيل متكامل مترامي الأطراف، تجمعه رؤية واحدة، وتزودها روافد الإيمان العميق، ويوحدها مشروع واحد هو تحرير بيت المقدس.

ومن هنا فالأمة اليوم تحتاج إلى عمل متواصل، وجهود متراكمة، ونبذ للفرقة والعصبيات والقوميات والحدود التي وضعها الاستعمار؛ حتى تأتي اللحظة المناسبة التي تكون الأمة فيها مؤهلة لتلبية نداء الجهاد، وتحرر بيت المقدس في نهاية المطاف، كما حرره صلاح الدين الأيوبي، رضي الله عنه وأرضاه.

مصر والشام هم المحور للتحرير

يقول التاريخ إن تحرير بيت المقدس لابد أن يكون مسبوقا بتحرير مصر والشام، والشام هنا هو الأردن وسوريا ولبنان، وإن كانت المعادلة قد تغيرت اليوم وأصبح من الوارد أو من الخاضع للتفكير – على الأقل -أن تحرر فلسطين نفسها، وتحرر العواصم العربية، وإن كان هذا صعبا يحول دونه حوائل كثيرة، تاريخيا، وواقعيا، كما نراه اليوم، وهو لا يحتاج لشرح.

ذكر ابن الأثير [الكامل في التاريخ: 9/ 337. طبعة دار الكتاب العربي] أن الصليبيين أرسلوا إلى ملكهم بالشام "وهو مري، ولم يكن للفرنج مذ ظهر بالشام مثله شجاعة ومكرا ودهاء، يستدعونه ليملكها، وأعلموه خُلوها من مُمانع، وهونوا أمرها عليه، فلم يُجبْهم إلى ذلك، فاجتمع إليه فرسان الفرنج وذوو الرأي منهم، وأشاروا عليه بقصدها وتملكها، فقال لهم: الرأي عندي أننا لا نقصدها، فإنها طُعمة لنا، وأموالها تساق إلينا، نتقوى بها على نور الدين، وإن نحن قصدناها لنملكها فإن صاحبها وعساكره، وعامة بلاده وفلاحيها، لا يسلمونها إلينا، ويقاتلوننا دونها، ويحملهم الخوف منا على تسليمها إلى نور الدين، ولئن أخذها نور الدين وصار له فيها مثل أسد الدين، فهو هلاك الفرنج وإجلاؤهم من أرض الشام".

فانظر إلى دهاء الملك مري وذكائه ووعيه بأهمية مصر في الصراع الإسلامي الصليبي الصهيوني، وهذا الذكاء والدهاء لم يكن بأقل منه عند نور الدين محمود، الذي دعا أسد الدين شيركوه، وقال له: "تجهز للمسير فامتنع خوفا من غدرهم أولا، وعدم ما ينفقه في العساكر ثانيا، فأعطاه نور الدين الأموال والرجال، وقال له: إن تأخرت أنت عن المسير إِلى مصر فالمصلحة تقتضي أن أسير أنا بنفسي إليها، فإننا إِن أهملنا أمرها ملكها الفرنج ولا يبقى معهم مقام بالشام وغيره". [كتاب الروضتين في أخبار الدولتين لأبي شامة: 2/ 52. مؤسسة الرسالة].

إن معركة فلسطين لن تنتهي بحرب أو حربين، إنها معركة طويلة بدأت قبل تسعين سنة، ولا تزال مستمرة، وستظل ما دامت مصر والشام على هذه الحال، ونحن نرى اليوم إرهاصات التغيير في مصر التي ستقبل في الأيام القادمة على أحداث جسام ربما لم تمر بها من قبل.

فتأمل هنا ما جاء على لسان الزعيمين الكبيرين: مري، ونور الدين، كلاهما ربط مصير الشام بمصير مصر، فبقاء الشام مرهون ببقاء مصر، وتحرير الشام له أثره البالغ على تحرير الشام، وضياع مصر له انعكاسه من ثم على ضياع الشام، وليت من تصدروا في مصر بعد ثورتها في يناير 2011م أدركوا هذا المعنى من التجربة التاريخية.

فدخلت مصر في حكم صلاح الدين الأيوبي، وأنهى وجود الدولة الفاطمية الشيعية، التي تحتاج اليوم إلى إنهاء من بلادنا، وأدخل الشام تحت سلطانه، ووحد ما حول فلسطين التي أصبحت محاصرة بملك صلاح الدين الأيوبي، تمهيدا للتحرير العظيم الذ تم في معكرة حطين التي وقعت في يوم السبت 25 ربيع الآخر 583هـ الموافق 4 يوليو 1187م  فى منطقه بين الناصرة و طبرية فى فلسطين.

واجبنا اليوم

إن معركة فلسطين لن تنتهي بحرب أو حربين، إنها معركة طويلة بدأت قبل تسعين سنة، ولا تزال مستمرة، وستظل ما دامت مصر والشام على هذه الحال، ونحن نرى اليوم إرهاصات التغيير في مصر التي ستقبل في الأيام القادمة على أحداث جسام ربما لم تمر بها من قبل، نرى أنها ستتعرض فيها لفتنة كبرى وحرب شوارع وتقسيمات وتشرذم بما يوجب على أصحاب الرأي والوعي أن يعدوا للتعامل مع هذه اللحظة من الآن؛ أملا في تحرير مصر وتوحيدها، وانطلاقا إلى أرض الشام المباركة؛ سعيا لحصار العدو الصهيوني المحتل وإجلائه من أرضنا المقدسة، وهذا يحتاج إلى عمل تربوي، وبناء فكري، وتأسيس لمشروع متكامل برؤية موحدة وهدف موحد؛ استلهاما من هذه السلسلة المباركة في تاريخنا العظيم المفتتحة بأبي حامد الغزالي، والمختتمة بالقائد المظفر صلاح الدين الأيوبي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.