شعار قسم مدونات

أفلاك النمو

يقدر عمر الكواكب في نظامنا الشمسي بنحو 4.5 مليارات سنة (غيتي)

يخبرنا القرآن الكريم عن أكبر أجرام الكون المرئية لعين الإنسان، الشمس والقمر، فيصف حركة دورانها، ويجعل من النظام الذي قدره الله لها دليلا على عظمة الخالق الكريم، فـ " لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون" فهل السباحة في الأفلاك أمر منحصر في الشمس والقمر أم أن ما دونهما -مثلي ومثلك قارئي الكريم- قد يكون دون أن يدري في حركة فلكية مستمرة؟  وإن كنا كذلك، فهل أفلاكنا وحركتنا حولها ثابتة كثبوت حركة الشمس والقمر؟

جزء من مراحل النمو هو ما أحب أن أسميه بالنمو من خلال عبور الأشخاص / الشخصيات؛ وأقصد بهذا نمو الشخص ليصبح أكبر من إمكانية التأثر بشخصية ما ربما كانت شديدة التأثير عليه في مرحلة معينة في حياته، حيث يتيح له حجمه "الفكري" الحالي التأثر بشخصية أكبر وأعمق تأثيرا. لنتخيل معا الطفل الصغير الذي يتأثر جدا بكلام صديقه في المدرسة أو معلمه، ثم يكبر ليعبر إلى شخصية الصديق ثم المعلم، ليصبح أكثر نضوجا فيتأثر بأستاذ الجامعة وشخصية سياسية ما، ثم يعبرهما إلى غيرهما وهكذا.

جزء كبير من المشاكل التي تحدث في علاقاتنا الاجتماعية المبنية على التأثير والتأثر الفكري ناتجة – في رأيي- عن كتلة تريد الفكاك وكتلة لا تقبله، أو العكس.

الموضوع ليس متعلقا بالعمر بقدر ما هو متعلق بعدد من العوامل منها الارتباط العاطفي والحاجة لملء مساحة التأثير والنمو الفكري للشخص نفسه ضمن عدد من الأمور، اللطيف هنا أن الشخص يدخل في شبكات معينة يكون هو العنصر الذي يعبر من خلاله آخرون، فيصبح هو بذاته مرحلة أو شخصية يعبر من خلالها الآخرون نحو نمو آخر.

هذا النموذج -غير الناضج بعد – يساعدني كثيرا في تفسير سلوكيات نفسي وغيري في شبكة العلاقات الاجتماعية، حتى أنني استطعت استخدام النموذج في تفسير سلوك بعض الجماعات الوظيفية التي تنمو أحيانا من خلال الشخصيات لتصبح جماعة مختلفة وتنفصل عن فلك الذي كان سببا أساسا في نموها.

كل شخصية لها كتلة فكرية، تتلازم معها -تلازما طرديا – قوة جاذبية، الأجسام ذات الكتلة الفكرية الأعلى قادرة على جذب كتل صغيرة -بالنسبة لها- إلى مدارها تماما كما تفعل الكواكب، وكل كوكب من هذه عنده جسيمات أخرى تدور حوله ستصبح دائرة تبعا للجسم الكبير أو الكتلة الفكرية الأساسية، والتي بدورها ستكون دائرة في فلك أخرى وهكذا.

تختلف طبائع الناس طبعا، البعض يبقى طوال حياته في فلك البعض الآخر، ليس في هذا مشكلة، ما دام الشخص يملأ دنياه بما يحتاج، لكن الإشكال الأكبر تحدث عندما يرفض أحدهم أن ينفك بعض الناس عنه.

عملية النمو التي أتحدث عنها هي عملية الانفصال عن المدار إلى مدار آخر لانخفاض قوة الجذب لدى مركز المدار الحالي، ربما يكون هذا لأن كتلته الفكرية قلّت، وربما لأن الكوكب الجديد هذا قد تجاوز شخصية المركز ونما عنها فلم يعد قادرا على إبقائه في مداره.

جزء كبير من المشاكل التي تحدث في علاقاتنا الاجتماعية المبنية على التأثير والتأثر الفكري ناتجة – في رأيي- عن كتلة تريد الفكاك وكتلة لا تقبله، أو العكس، كتلة تود الانفكاك وأخرى لا تريده. ولربما أيضا من بعض الشخصيات التي تنفك عن مدار ما وتلتحق بغيره فتتغير نظرته لمداره القديم ويعتقد أنه كان عائقا له عن الالتحاق بمدارات كبار فيحقد عليه دون أن يدرك أنه كان سببا لا عائقا..

تختلف طبائع الناس طبعا، البعض يبقى طوال حياته في فلك البعض الآخر، ليس في هذا مشكلة، ما دام الشخص يملأ دنياه بما يحتاج، لكن الإشكال الأكبر تحدث عندما يرفض أحدهم أن ينفك بعض الناس عنه، دون أن يدرك أنه كما غيره: درجة ومرحلة، وأن من حوله إذا لم يكبروا عنه فقد أذنب في حقهم فهو لم يعطهم كل ما عنده ولم يساعدهم على النمو ليصبحوا قادرين على الدوران في فلك آخرين أكبر منه.

كلنا لبعضنا درجات نتخطاها، وكلنا لبعضنا مراحل نتجاوزها، ليس في هذا مشكلة، بل فيه طعم الحياة التي تكره التكرار وتعادي العادات وتشتهي تذوق الجديد. وهذا -بالمناسبة – يظهر لنا عظمة الشخصيات التي تبقى دائرا معها طوال حياتك: زوجة صديقة، رفيق مستمر النمو، أو رجل لا زلت تبعده ليبقى قريبا

.

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.