شعار قسم مدونات

نمر من ورق!

أسر جنود إسرائيليين في بداية انطلاق عملية طوفان الأقصى في السابع من الشهر الماضي (مواقع التواصل الاجتماعي)
أسر جنود إسرائيليين في بداية انطلاق عملية طوفان الأقصى في السابع أكتوبر 2023 (مواقع التواصل الاجتماعي)

استوقفتني كلماته حينها، وما تزال تلك الكلمات تلح على خاطري بين حين وآخر. ففي تعليقه على المشهد قال: "كلما شاهدت فيديو لجيش الاحتلال أشعر بالندم والأسى، ليس على جيش الاحتلال، ولكن على الجيوش العربية التي هُزمت في عام 1967.. أهذا هو الجيش الذي هزم جيوش ثلاث دول؟! هذا جيش يترسخ فيه الفشل وسوء إدارة المعركة وعدم وجود قواعد اشتباك والخوف والذعر والجبن.. فعلا أشعر بالأسى والمرارة، كيف هزمنا في عام 67؟! سُحقا".

كانت تلك كلمات اللواء فايز الدويري في إحدى وقفاته مع تحليلاته ليوميات الحرب، في التعليق على مشهد جندي إسرائيلي يمسك سلاحه بيد ترتعش، ليطلق الرصاص على ثقب يظهر على وجه الأرض، راقب اللواء الدويري المشهد، وراقبنا نحن معه ما يجري، انتظرنا أن نرى خصم الجندي الذي يتبادل معه إطلاق النار، أو خصمه الذي قضى عليه، فلم نرَ إلا ذاك الثقب في الأرض، وعندها أدركنا أن ما نراه ليس إلا مشهدا تمثيليا لممثل مبتدئ وبإخراج رديء، يراد تقديمه إلى المجتمع الإسرائيلي لإظهار أن جيشه قد حقق انتصارا هنا.

لا نستطيع أن ننكر كمية البطش التي أوقعها جيش الصهاينة بأبناء هذه الأرض، ولا حجم الدمار الذي خلفه، لكن الأحداث تؤكد أن ذلك كله لا ينطلق من بطولة، ولا يعكس قدرا عاليا من الكفاءة القتالية، وإنما هي من جهة أولى ترسانة من الأسلحة يتحصنون خلفها

والحقيقة أن المتابع لأحداث أيام الحرب، التي تجاوزت المئة، لا بد أنه قد وجد الكثير مما ينبغي الوقوف عنده للتأمل والتحليل، وهذا أدعى أن يكون إذا كان التحليل العسكري في صميم عمل وصفة من يراقب المشهد، وإن مجريات الحرب قد أثارت لدينا أسئلة عديدة عن هزائمنا القديمة وأسبابها، عن الوهن الذي أصابنا وطول أمده، وعن خوفنا من عدو بدا لنا وحشا كاسرا، ففضحته غزة وأظهرت حقيقته الهشة الواهنة.

لا نستطيع أن ننكر كمية البطش التي أوقعها جيش الصهاينة بأبناء هذه الأرض، ولا حجم الدمار الذي خلفه، لكن الأحداث تؤكد أن ذلك كله لا ينطلق من بطولة، ولا يعكس قدرا عاليا من الكفاءة القتالية، وإنما هي من جهة أولى ترسانة من الأسلحة يتحصنون خلفها، وقد أمدتهم بها قوى الشر والظلم في العالم، ومن جهة ثانية سياسة خبيثة، من خلالها تمكنوا من إيصال عملاء وأجراء لهم إلى مواقع السلطة في بلداننا، ليكونوا أدوات تنفيذ لمخططاتهم ومآربهم، ولا مانع لديهم ليكتمل الدور من أن يتظاهر هؤلاء العملاء بالعداوة لمن هم في الحقيقة أسياد لهم، ولا بأس في أن يرفع هؤلاء العملاء شعارات برّاقة عن النضال الوطني والقومي، وعن حميّة مدَّعاة لفلسطين وأهلها، لدغدغة مشاعر الشعوب وإبقائها في غفلة، طالما أن هذه الشعارات ستبقى جعجعة بلا طحين. ومع امتداد الحال، رسخ المحتل جذوره في الأرض.

تلك كانت وسائل المعتدين في الوصول إلى ما وصلوا إليه، وفي صنع صورة لهم مرعبة للآخرين، استطاعوا من خلالها ترسيخ الوهم والوهن في نفوس كثيرين في محيط المسلمين والعرب؛ أما حقيقتهم التي كانت تتخفى وراء الصورة فلم تكن إلا همما واهنة، وعزائم خائرة، ونفوسا تتعلق بالدنيا، وتكره الموت، فإذا رأوه قادما خارت قواهم وعصف بهم الخوف والهلع.

هذا الواقع الذي أشعرنا بالعجز وأصابنا بالشلل، وجد أبناء غزة السبيل إلى التعامل معه وتجاوزه، هم شخصوا الداء وعرفوا الدواء، امتلكوا الإرادة فتجاوزوا حالة العجز وانتقلوا إلى الفعل الإيجابي المؤثر ليعيشوا في أرضهم كراما، وينالوا عند ربهم المقام الأسمى. لقد أدرك أبناء غزة أن تحرير الأوطان لا بد أن يسبقه إعادة بناء للإنسان، والبناء يشمل الجوانب العقدية الدينية والنفسية والعلمية والأخلاقية والاجتماعية، هذا الإنسان لا يبقى أسير ما أريد له أن يبقى قابعا فيه من الخوف والوهن، بل إنه سينتفض على واقع الذل والمهانة ليشق طريقه إلى العلياء، وفي مجتمع ينشأ فيه الإنسان القويم لا يبقى للخونة والمتخاذلين مكان، وإن تسللوا فسرعان ما ينكشف أمرهم، فتكبل أيديهم، ويندحر إفسادهم.

هذه غزة، وهؤلاء أهلها، رفضوا الاستسلام لأوهام تصور لهم عدوهم جيشا قاهرا لا يمكنهم الثبات في مواجهته، رفضوا الخنوع والخضوع وأبوا إلا أن يكونوا أعزة في المحيا وفي الممات

أما تفوق العدو بالتقنية والسلاح فكان عقبة لم يعجزهم التغلب عليها بعدما وثقوا بأن من ينصر الله سينصره الله؛ فتوفر لهم من الإيمان والتصميم، ومن الإرادة والعلم والتخطيط، ما جعلهم يبتكرون أدوات وأساليب تحيل الميركافا المرعبة وعالية التكاليف إلى خردة حديد، وتجعل طائرات الصهاينة عاجزة عن حماية جنودهم من حمم تأتيهم من فوق الأرض ومن تحتها، ووسائط استطلاعهم فائقة التطور عمياء حيرى قي تكهناتها بشأن خارطة أنفاق أذاقهم من فيها الويلات.

هذه غزة، وهؤلاء أهلها، رفضوا الاستسلام لأوهام تصور لهم عدوهم جيشا قاهرا لا يمكنهم الثبات في مواجهته، رفضوا الخنوع والخضوع وأبوا إلا أن يكونوا أعزة في المحيا وفي الممات، استعانوا بالله وبرزوا لعدوهم بهذه الهمة وهذه الرؤى، فحطموا غطرسته وأذلوا كبرياءه. أراد عدوهم أن يذلهم ويقهرهم، فإذا بذلك العدو يرتد إليه الذل والقهر، وتتعاقب على جيشه الهزائم والانتكاسات، وتهيمن على عناصره مشاعر الخوف والرعب، فيغدو مثقلا بحمله منهم من المرضى النفسيين ومن المحطمين والمعاقين والمعتوهين.

لقد أسقط أهل غزة الصورة المتوهمة عن ذلك الجيش، صورة الوحش الكاسر، وأظهروه على حقيقته، فإذا هو نمر من ورق!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.