شعار قسم مدونات

قصة الإنسان المقموع!

غلاف كتاب حيونة الانسان
غلاف كتاب حيونة الانسان (الجزيرة)

يريد القامع أن يقمع شيئا محددا في المقموع، وهو جوهر حياته، أو أحد أهم المستلزمات لحياته، لأنه يريده نصف حي. النصف الآخر "الزائد" هو الإرادة أو الحرية أو الكرامة، وهذا النصف إن لم يمت فإن القمع والاضطهاد لا يمكن أن يستمرا. إن تاريخ الإنسان المقموع، وهو الغالبية العظمى من البشر، هو تاريخ الإنسان المتحول إلى شيء آخر غير الإنسان، هو تاريخ تشويه الإنسان وتزويره.

في عالم القمع، هناك المنظم والعشوائي، الذي يعيشه إنسان هذا العصر، هو عالم لا يصلح للإنسان ولا لنمو إنسانيته، بل هو عالم يعمل على تحويله إلى حيوان. ومن هنا نجد أن الإنسان تعرض إلى عملية تشويه وتقزيم. لأن التغيير الأكثر خطورة هو الذي جرى في بنيته الداخلية العقلية والنفسية.

وإذا كان الأمر كذلك، فكم فقدنا من كرامتنا وتضامننا الإنساني وإحساسنا بإنسانيتنا حتى صرنا نقبل هذا العنف الذي نعامل نحن به أو يعامَل به غيرنا على مرأى منا في الحياة أو حين نقرأ عنه أو نراه في شاشات التلفزيون، وسنتجاهل أننا نحن نعامل غيرنا أحيانا بهذه الطريقة: أولادنا أو مرؤوسينا أو طلابنا مدارسنا أو الذين يقعون بين أيدينا من أعدائنا مثلا، أو السجناء الذين بين أيدينا.

المقموعين تاريخيا حين يجدون متنفسا ويتوصلون إلى سلطة ما، فإنهم يريدون أن ينتقموا داخل نفوسهم من كل مشاعر الخوف والتذلل التي عرفوها، ولذلك يصبحون أشد قسوة من مضطهديهم، وهم يقلدون أولئك الذين اضطهدوهم، فهم يضيفون إلى ما يعرفونه، ويريدون تقليده، شحنات من أحلام اليقظة المكبوتة والانتقام من الذات التي كانت مستكينة

ترويض المقموعين

إن مجتمعات القمع هي المجتمعات التي تضع هدفها أنه لا بد من أن يتغير شيء ما في الإنسان لضمان انصياعه التام والدائم، بحيث يتم ذلك عبر عملية "ترويض" تهدف إلى إحداث تغيير في البنية الداخلية لنظام المخلوق بحيث يصبح مطيعا لأمور غير غرائزه، وبعملية الترويض تلك يتم إدخال تشويشات على نظام رغبات المخلوق، وهذا التحول الداخلي إنما يحدث بفعل قوة القمع. وهذا يقودنا إلى أن الحديث عن تصريف العنف أو تحويله، لأن الإنسان الذي غرست أنظمة القمع خوفا عريقا في نفسه يشجع كل من حوله على التطاول عليه، فيعرف هو نفسه كيف يستغل الفرصة للتطاول على الآخرين حين يرى تلك الفرصة سانحة.

الانتقام من الماضي

إن المقموعين تاريخيا حين يجدون متنفسا ويتوصلون إلى سلطة ما، فإنهم يريدون أن ينتقموا داخل نفوسهم من كل مشاعر الخوف والتذلل التي عرفوها، ولذلك يصبحون أشد قسوة من مضطهديهم، وهم يقلدون أولئك الذين اضطهدوهم، فهم يضيفون إلى ما يعرفونه، ويريدون تقليده، شحنات من أحلام اليقظة المكبوتة والانتقام من الذات التي كانت مستكينة، ويمددون صلاحياتهم خارج أسوار المكاتب أو حتى الزنزانات.

إن صلاحيات الجلادين المذعورين الراغبين في الانتقام من ماضيهم لا تقتصر على الزنزانات، بل إن هؤلاء الجلادين ينقلون زنزاناتهم وسياطهم ووحشيتهم معهم أينما تنقلوا، ويحولون المجتمع كله إلى زنزانة واحدة، كل إنسان فيها معرض للضرب والإذلال والإهانة والسلب في أي لحظة، ومن دون سبب واضح بالضرورة. وهؤلاء الذين ينشرون الذعر عبر القمع، يشعرون أنهم يتحركون ضمن مجتمع مذعور مقموع.

تلعب المدرسة دورا محوريا في ممارسة هذا القهر؛ إذ إنها بدلا من خلق القدرة على السؤال والبحث تقوم بإعادة إنتاج للأجيال -المُمارَسُ في حقها عنف السلطة الرمزي- دون أي تجديد في ذلك؛ بغرض الإبقاء على النظام الاجتماعي في صورته التي تختارها السلطة

الأسرة.. المدرسة

في تحليله للعلاقة بين السلطة والقهر يُوسِّع الدكتور مصطفى حجازي، في كتابه التخلف الاجتماعي، مفهوم السلطة القهرية ليتعدى المفهوم الاستعماري أو السياسي إلى مفاهيم أضيق وأكثر قربا من المقهورين، فالأسرة، والمدرسة، والوظيفة، كلها مجالات للقهر الاجتماعي تُبنى على بعضها، لكنها تشترك في النهاية في محصلة واحدة، وإن تباين مستواها، وهي إخضاع الآخر للسلطة بأداتين مترابطتين: سمو قدر المتسلط، وانحطاط شأن المقهور.

فيذهب عالم النفس اللبناني إلى أن علاقة القمع – لكي تستمر بين المتسلط والمقهور- تحتاج دائما إلى ما يُغذِّي نرجسية السيد؛ حتى تتلاشى احتمالية التكافؤ بينه وبين من يقهره، فيزيد العنف والتعسف، وتتفاقم نظرة المتسلط للمستضعف دونية واحتقارا.

المدرسة.. عالم القمع المنظم

تلعب المدرسة دورا محوريا في ممارسة هذا القهر؛ إذ إنها بدلا من خلق القدرة على السؤال والبحث تقوم بإعادة إنتاج للأجيال -المُمارَسُ في حقها عنف السلطة الرمزي- دون أي تجديد في ذلك؛ بغرض الإبقاء على النظام الاجتماعي في صورته التي تختارها السلطة، وإبقاء الطبقات الدُنيا في حالة خضوع مستمر للطبقات المُهيمنة.

إن أسلوب التدريس التقليدي ما هو إلا تعطيل للطاقة الكامنة لدى المُتعلِّم، وهو يستهدف تطويع الطلاب بدافع فكري مرسوم كي يتأقلموا مع عالم القهر، ومع إرساء دعائم التخلف في المجتمع.

فالتعليم هنا عملية أُحادية لا تساعد الطالب على اكتساب التفكير النقدي الجدلي، وإنما يُغذِّي متلازمة التسلط والتخلف، فهو يُهيِّئ المرء للتسلط من خلال التلقي والقبول دون مناقشة، ويلقي به في التخلف من خلال تعلُّم المُثل العليا للطبقات المهيمنة، لا الطبقات الشعبية العريضة، مما يصنع انفصالا بينه وبين الواقع فلا يجد فيما يتعلّمه نفعا لمجتمعه.

فالعلم لا يُشكل بالنسبة للعقل المتخلف أكثر من قشرة خارجية رقيقة يمكن أن تتساقط إذا تعرض هذا العقل للاهتزاز؛ لأن هذا العلم لا يعدو كونه قميصا يخلعه المرء أكثر مما يرتديه.

الإنسان ميال بطبيعته إلى رفض الإذلال، ولذلك فإن المهان الذي لا يستطيع رد الإهانة يجب أن يصرفها مثل فيتامين (سي) الزائد في الجسم، وهو حين لا يستطيع ردها من مصدرها لا بد له من أن يصرفها باتجاه آخر (كأن يبكي مثلا)

المجتمع السجين.. واشتعال الحرب الأهلية

بدل أن يكون القامع شخصاً يصبح مجموعة، وبدل أن يكون وظيفة يصبح واجباً وممارسة اجتماعية ويومية، فتصبح العقوبة المزاج اليومي المتبدل والمتسلط والمتحكم لدى القامعين هي التي يرزح تحتها المجتمع كله تحت وطأتها، وحتى لا يبدو نشازا هذا العمل يتم إشراك أكبر عدد يمكن تجنيده في عملية الممارسة القمعية، وهنا يصبح المجتمع كله سجنا، ويصبح الأمن الشخصي في البيت هشا هشاشة أمن السجين في زنزانته.

ولنا أن نتصور كيف يكون الحال عندما يرى كل مواطن أن من حقه، أو من واجبه، حماية النظام أو السلطة أو المجتمع أو الوطن أو الدين من أعداء الداخل قبل أعداء الخارج، إذ يصبح كل مواطن رقيبا على الموطن الآخر، وتصبح تهمة الإلحاد والكفر أو الخيانة والعمالة جاهزة للالتصاق بكل إنسان، ومن ثم يصبح كل إنسان مهددا في كل لحظة من يومه وفي كل مكان يكون فيه.

ولنا أن نتصور أن من أبرز أساليب الإعداد للحرب الأهلية إقناع كل طرف أن الطرف الآخر، أو الاطراف الأخرى، خطر على الوطن أو الدين أو المجتمع.

كل فرد منا ديكتاتور.. وتراكم قمعي مزمن

يبدو أن مجتمعات القمع، القامعة والمقموعة، تولِّد في نفس كل فرد من أفرادها ديكتاتورا، ومن ثم فإن كل فرد فيها، ومهما شكا من الاضطهاد، يكون مهيأً سلفا لأن يمارس هذا القمع ذاته الذي يشكو منه، وربما ما هو أقسى وأكثر عنفا، على كل من يقع تحت سطوته، فالمثل المحتذى متوفر أمامه كل يوم في من يضطهدونه، وهو شاء أم أبى يرى فيهم ما يمكنه أن يقلده، ولهذا يتبين أن الموظف الضعيف والمسخرة له أنياب لا تقل حدة وإيذاء عن أنياب من يهزؤون منه ويسخرونه أو يسخرون منه، ولا تظهر هذه الأنياب، أنيابه، إلا حين تتاح له الفرصة للترقي الوظيفي، وحين يصبح آمرا على آخرين يستطيع أن يضرهم وينفعهم. فالمسؤول المقموع من قبل من هم أعلى منه سلطة يتحول إلى آمر قامع في دائرة نفوذه، والمواطن المقموع يتحول إلى زوج قامع لزوجته وأولاده، والمرأة المقموعة تتحول إلى أم قامعة أو جارة متسلطة.

لأن الإنسان ميال بطبيعته إلى رفض الإذلال، ولذلك فإن المهان الذي لا يستطيع رد الإهانة يجب أن يصرفها مثل فيتامين (سي) الزائد في الجسم، وهو حين لا يستطيع ردها من مصدرها لا بد له من أن يصرفها باتجاه آخر (كأن يبكي مثلا)، إلا أن الشائع هو التصريف نحو من يستطيع أن يتجبر عليهم، حتى نصل إلى مجتمعات ترزح تحت التراكم القمعي المزمن.

من أخطر ما يحدث من تحولات أن كل شخص، مهما علت مراتبه أو مواهبه أو اختصاصاته العلمية أو الأدبية، يحول نفسه إلى خادم لجهاز القمع بالتطوع، وليس ذلك حبا بالجهاز أو وظيفة الجهاز، بل رغبة منافقة في نيل رضا الجهاز عنه

غابة ذئاب وقمع اجتماعي

وهنا تميل الدائرة إلى الانغلاق، فالاستبداد – كما قال عبد الرحمن الكواكبي – يعتمد على ضعفاء النفوس، الذين تكون دناءتهم وصغارهم هما أفضل أوراقهم الثبوتية، فيتبوأ هؤلاء المراكز القيادية في المجتمع، وبما أنهم لا يعتمدون على كفاءاتهم وليس لديهم ميل، ولا يشعرون بالحاجة إلى تطوير هذه الكفاءات، يكون من المنطقي أن يميلوا إلى السلبطة والقمع، ثم يتحولون إلى القمع الاجتماعي.

يحس الإنسان المقهور المقموع أن العالم قد تحول إلى غابة ذئاب لا يمكن الاطمئنان فيها حتى إلى أكثر الناس قربا ولا يمكن الثقة حتى بأكثر الناس صدقا، ويعمم نموذج التسلط والخضوع على كل العلاقات وعلى كل المواقف من الحياة والآخرين والأشياء، حتى تتسمم علاقة الرئيس بالمرؤوس بهذا النمط التسلطي الرضوخي كما تتسلط علاقة الرجل بالمرأة، والكبير بالصغير، والقوي بالضعيف، والمعلم بالتلميذ، والموظف ورجل الشرطة بالمواطنين.

الاستسلام وإعلان النفاق

يصل الفرد أو المجتمع إلى قناعة باستحالة مقاومة الوضع، فيعلن استسلامه الأخلاقي، ثم يتوارث الأجيال هذا الاستسلام ويتحول إلى قيم وحكم اجتماعية وأخلاقية، وتتم في حالة الاستسلام هذه مجموعة من التحولات على طبائع الناس وعاداتهم وأخلاقهم وقيمهم وروابطهم، وتنشأ بينهم مقولات لقيم خاصة تشي بعزلتهم وضعفهم وابتعادهم عن دائرة الفعل: (امش الحيط الحيط وقل يا رب السترة، ما دخلنا، يصطفلوا، بطيخ، أو فخار، يكسر بعضو.. إلخ).

ومن أخطر ما يحدث من تحولات أن كل شخص، مهما علت مراتبه أو مواهبه أو اختصاصاته العلمية أو الأدبية، يحول نفسه إلى خادم لجهاز القمع بالتطوع، وليس ذلك حبا بالجهاز أو وظيفة الجهاز، بل رغبة منافقة في نيل رضا الجهاز عنه، أو إبعاد اشتباه الجهاز به.

  • ملحوظة: مادة هذا المقال مأخوذة بأغلبها من كتابي: حيونة الإنسان لممدوح عدوان، والتخلف الاجتماعي لمصطفى حجازي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.