شعار قسم مدونات

ألا نستحق موتا مشرّفا أكثر؟!

مجلس الرقة المدني ينسب قتل المدنيين ودفنهم في المقابر الجماعية لتنظيم الدولة الإسلامية (الجزيرة)
أستطيع أن أرى كيف أننا بتنا نحفر قبورنا بأيدنا وذلك بيأسنا بصمتنا وتخاذلنا (الجزيرة)

كنت أمر كل صباحٍ بالمقبرة التي كانت حديقة خلفية للمسجد، ثم تحولت تدريجيا إلى مكان لدفن الشهداء، أراقب حفار القبور وهو يقوم بعمل شاق ومتقن في آن معا، يحفر القبور، يستقبل أهالي الشهداء ويودعهم، ويعتني بكل أنواع الزهور والزرع الذي يحيط بالمقبرة، كان الورد الجوري بكل ألوانه منتشرا، وإكليل الجبل، وقطر الندى، والقرنفل بألوانه، وأنواع أخرى لم أحفظ أسماءها زرعها أهالي الشهداء، أو حرص هو على غرسها، وكل صباح كان يسقيها بحرص دون أن يميز بينها، كأب يحرص أن يعدل بين أبنائه، وكان يحفر قبرين أو ثلاثة من باب الاحتياط، فلا أحد يمكن أن يتنبأ بموعد المجزرة القادمة، لنشاهدها كل صباح، ننظر إليه بكل تصالح وود، ونفكر هل تراه يحفر قبورنا هذه المرة؟

لم يكن أحد يعترف لحفار القبور أنه يقوم بعمل جيد، أو يمتدح أحدٌ نشاطه وحسن تدبيره من قبل ولو فكر لحظة فيما لو أنه غاب يوما أو توقف عن العمل، ما الذي سيحدث للموتى، وأسر الشهداء الذين لم يتمكنوا من دفن جثثهم؟!

كان في الحي أكثر من حفار قبور، أحدهما ينادى "أبو شام"، وكنت لا أستسيغ أن يكون هذا اللقب لحفار قبور،  فالشام لا يليق أن تقترن إلا بالحياة، ، ولكن بعدها أخبروني أن كل حفاري القبور يحملون ذات اللقب، فقلتُ لعل الجنة أصبح فيها الآن مكانٌ خاصٌ بالشام وأهلها، ومَن غير الشهداء يُحدثون هذه الصلة بيننا نحن أهل الأرض، وبين الأحياء هناك، وقد اكتشفت فيما بعد أن الجميع أصبحوا يمرّون بالحديقة  "المقبرة"، ويلقون التحية على أمواتهم الأحياء، ويدعون لهم بالرحمة، ويغادرون وهم يثنون على اهتمام حفار القبور بأحبتهم، وكأنه يطبطب عليهم ويواسيهم، وهذا يعني لهم الشيء الكثير.

قبل الثورة لم يكن أحد يحب مقابلة صاحب هذه المهنة، بل كانوا يتطيرون ويتشاءمون من رؤيته، وكانت العناية بالقبور بشكل فردي، كل يسقي ما زرعه عند صاحب القبر، أما الزيارات فغالبا في صباحات الأعياد، وغير ذلك لا أحد هناك، مكان مهجور، متاح لتأليف قصص الرعب والجن والخرافات التي يتسلى بها الفارغون، ولكن تغير مفهوم المقبرة، وباتت مكانا تُشبه زيارته الجنة، وكل من ضاق صدره كان يذهب ليلقي التحية على من يحسبهم من أهلها، ثم يعود بنفس مطمئنة رضية، والسبب برأيي أن من قام بهذا الأمر اعتبره عملا مشرّفا، ووسيلة ليكسر رهبة الخوف، وينشر الطمأنينة في لحظات الرعب.

لم يكن أحد يعترف لحفار القبور أنه يقوم بعمل جيد، أو يمتدح أحدٌ نشاطه وحسن تدبيره من قبل ولو فكر لحظة فيما لو أنه غاب يوما أو توقف عن العمل، ما الذي سيحدث للموتى، وأسر الشهداء الذين لم يتمكنوا من دفن جثثهم؟!

حدث ذلك لصديقة عزيزة، حيث قامت بحفر قبر أختها ودفنتها وحدها، لم يكن أمامها خيار سوى أن تفعل ذلك، في مكان لم تستطع مغادرته بسبب القصف، ومع انعدام وجود بشر حولها يقدمون المساعدة، كان أصعب قرار يمكنها اتخاذه في حياتها هو أن تقوم هي بمهمة حفر القبر، ودفن شقيقتها بيديها، وأما الأشق من ذلك عندما كانت تحكي القصة، كنت أقرأ الحزن ممزوجا بحسرة، وشيء كبير من القوة، لأنها حازت ذاك الشرف ونجحت في مهمتها الصعبة، أما بالنسبة لي كان سماع القصة أمرا شاقا على القلب.

أستطيع أن أرى كيف أننا بتنا نحفر قبورنا بأيدنا وذلك بيأسنا بصمتنا وتخاذلنا، أمر كالمقاطعة والإضراب بوسعه إحداث هزة في عالم يعتبر المال عصب حياته، لم لا نُقلق هذا العصب

عادت لذاكرتي هذه القصص مع تجدد أخبار غزة من عدم القدرة عن حفر قبور لذلك العدد الهائل من الشهداء، والعائلات التي استشهدت ومحيت أسماؤها من السجل المدني، هل وجدوا قبورا تحتضنهم؟! وهل وجدوا من يتمكن من فعل ذلك في بقعة مهدد كل شبر فيها بالقصف؟ ربما لم يستطيعوا، وغابت رفاهية وجود قبور لمن استشهدوا تحت الركام، ولكن بقي العزاء الحقيقي أنهم لا خوف عليهم بعد الآن، فهم  في الجنة، ولعل في الجنة مكان يسمى غزة، أصبح موطنهم الأبدي والدائم.

أجل نحن نفقدهم هناك، نفقد أُسرا عظيمة، وطاقات بشرية هائلة، نفقد وجودهم الذي كان يملأ الدنيا حياة وخيرا، ولكنهم أحياء عند ربهم يرزقون، لكننا في ذات الوقت نفقد العشرات أيضا ممن كانوا في عداد الأحياء يبثون الأمل والإرادة، لكنهم قرروا فجأة أن يستسلموا ويتراجعوا عن كل شيء.

  • أتساءل ماذا يلزمنا من ذاك التعداد السكاني الصامت على هذا الكوكب؟

أستطيع أن أرى كيف أننا بتنا نحفر قبورنا بأيدنا وذلك بيأسنا بصمتنا وتخاذلنا، أمر كالمقاطعة والإضراب بوسعه إحداث هزة في عالم يعتبر المال عصب حياته، لم لا نُقلق هذا العصب، لم لا نثير أعصاب العالم الذي يحاول قطع علاقتنا بقضيتنا الأهم، وبأهلنا الذين يغادرون عالمنا كل يوم؟

يقولون دائما أن لا كلمات عزاء يمكن أن تواسيهم، ولا وقفات في العواصم والمدن ستعيد الشهداء أو توقف العدوان، ولا الإضراب سيصنع فرقا، لقد خذلناهم فعلا.

كل يوم تحاصرني كلماتهم وأفكر أن أتوقف، أتخيل نفسي مكممة الفم، مكتوفة اليدين، أراقب وأسمع وأُقتل كل دقيقة أمام مشاهد القتل وأهوال ما يحدث، ثم ماذا؟ سأعود إلى فراشي لأحاول أن أغفو عبثا، سيطلع الصباح وأنا مازلت أصارع موتي وتعذيبي وإحباطي وقهري، مجرد تخيل الأمر قاتل وكأنني أحاول التنفس عبثا داخل قبر خانق، وما جدوى إعلان الهزيمة سوى أن أفقد احترامي لذاتي؟  ثم ماذا عنهم أولئك الذين لا يطلبون المساعدة لأنهم تعبوا من تجاهلهم؟ سيبقى العدوان كما هو لا شيء تغير، سوى أن صوتا كان يساندهم اختفى قهرا وكمدا ولو كان في مكان آمن وعلى فراش وثير، وقد كان بوسعه أن يفعل شيئا، مثل أن يخفف عنهم، أو يوظف طاقاته لمساندتهم، وعلى الأقل سيغيب قلب يدعو لهم بيقين المنتصرين وعزيمتهم، فهل هذه طريقة لائقة للموت؟ ألا نستحق موتا مشرفا أكثر؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.