شعار قسم مدونات

عبر البوسنة.. تاريخ في البلقان يلد حاضرا في فلسطين (7)

أدركت السر فى لهفة العرب للقاء المتلاحم وذلك عندما بدأت قذائف الكاتيوشا تصدر عن الموقع الصربي متساقطة بشكل عشوائي على الغابة (وكالة الأناضول)
  • الطريق إلى زينيتسا.. في صحبة مقاتلي العرب في البلقان.
  • وسقط الموقع الصربي أمامي فى 40 دقيقة.
  • المعركة بدأت بكواتم الصوت وتطورت إلى قتال بالخناجر.

بدأ الهجوم وكنت أجاهد كي ألحق بأفراد مجموعة الهجوم الرئيسية التي يقودها عبد القادر. للحظات اصبت بالدهشة، حيث شعرت بأن ما يجرى أمامي لا يعدو أن يكون مشهدا سينمائيا. فقد رأيت خمسة من الجنود الصرب يسقطون فى أقل من ثلاث دقائق مضرجين فى دمائهم من دون أن أسمع طلقات نارية ومن دون أن يلتحم معهم العرب.

فيما بعد، وخلال المراحل التالية من الهجوم أدركت كواتم الصوت المثبتة على طبنجات عناصر العرب، وأنهم يستخدمون هذه الكواتم فى المرحلة الأولى من الهجوم حتى يجهزوا على أكبر عدد من عناصر العدو من ناحية، وحتى يتسنى لهم أن يقتربوا أكبر مسافة ممكنة من قلب الحصون التي يهاجمونها.

أطلقت آخر دفعة من الطلقات مكتومة الصوت لكي تحصد عددا آخر من العناصر الصربية، ولكي يصل الإحصاء لعدد القتلى من الجانب الصربي فى الموقع بشكل تقديري سريع إلى ما لا يقل عن 16 ولتبدأ الاشتباكات بين الجانبين بالأسلحة الآلية.

ظل الحال على ما هو عليه من قتل صامت بفضل كواتم الصوت، حتى بدأت تلوح أمامنا مباني الموقع الصربي التي كانت مثل مباني الموقع الأول، نصفها الأسفل مبنى بالأحجار، فى حين بنى النصف الأعلى والأسقف بقطع من جذوع اشجار البلوط والسنديان الضخمة.

كانت آخر طلقات من الطبنجات المزودة بكواتم الصوت هي التي أطلقت قبيل تجاوز فصائل العرب الثلاثة آخر صف من أشجار السنديان الباسقة المحيطة بالموقع الصربي الذي كان يفترش مساحة واسعة من أرض هذه الأحراش تم تجريدها من الأشجار بقطعها.

أطلقت آخر دفعة من الطلقات مكتومة الصوت لكي تحصد عددا آخر من العناصر الصربية، ولكي يصل الإحصاء لعدد القتلى من الجانب الصربي فى الموقع بشكل تقديري سريع إلى ما لا يقل عن 16 ولتبدأ الاشتباكات بين الجانبين بالأسلحة الآلية.

أثناء الاشتباكات دفعني عبد القادر إلى حفرة تقع خلف إحدى الأشجار الضخمة، كانت الحفرة واسعة بحيث ضمتنا سويا. كانت الأوامر الصادرة من عبد القادر عبر اللاسلكي عدم الضرب العشوائي والتركيز على أهداف بشرية توفيرا للذخيرة، وللإيقاع بأكبر قدر من الخسائر البشرية من ناحية، وللتعجيل بالهجوم المتلاحم من ناحية أخرى.

فى غضون دقائق أدركت السر فى لهفة العرب للقاء المتلاحم، وذلك عندما بدأت قذائف الكاتيوشا تصدر عن الموقع الصربي متساقطة بشكل عشوائي على الغابة. القتال المتلاحم لم يبادر به فصيل الهجوم الرئيسي الذي يقوده عبد القادر، ولكن بادر به الفصيل الذي كان يهاجم من الجانب الشرقي والذي كان الأكثر قربا للمعسكر. استمر الحال على ما هو عليه ما يقرب من العشر دقائق أوقف خلالها الفصيلان الآخران نيرانهما، وهو ما أدى لتركيز الجانب الصربي نيرانه على الفصيل الذي بدأ القتال المتلاحم.

بعد ذلك بدأ الفصيل الآخر هجوما متلاحما داخل وحول مباني المعسكر من الناحية الغربية له، وهو ما أربك المدافعين من الصرب وشتت نيرانهم. وبعد ذلك بدأ الفصيل الرئيسي للهجوم الذي يقوده عبد القادر هجوما قويا من القلب، ودارت معركة لم أكن لا صدقها من دون أن أراها رؤى العين.

فحتى تلك اللحظة لم يكن المجاهدون قد فقدوا سوى شهيدا واحدا واصيب ثلاثة آخرون بطلقات فى الذراع أو الكتف، إلا إصاباتهم لم توقفهم عن القتال. قبل أن يصل المقاتلون العرب إلى مباني المعسكر بدقائق قليلة، بدأوا فى استخدام مكثف ودقيق للقنابل اليدوية الهجومية والتي نالت بشدة من الجانب الصربي. القتال المتلاحم أفقد الكاتيوشا الصربية قيمتها وأجبر الجانب الصربي على التوقف عن استخدامها، حيث تقاربت المسافات بشدة حتى وصلت فى بعض مشاهدها إلى القتال اليدوي باستخدام الأسلحة البيضاء.

لن انس ما حييت ذلك المشهد عندما رأيت أحد العناصر من العرب وهو يعدو نحو جندي صربي وابتسامة عريضة ترتسم على وجهه حتى وإنك لثواني تخاله يعدو مقبلا على حبيبته. أما الجزء الثاني من المشهد الغريب، فهو أن الجندي الصربي طار صوابه، وذلك قبل أن يستدير ويكاد يطير عدوا هربا من المقاتل العربي.

استمر القتال المتلاحم مدة عشرين دقيقة أحسستها دهرا، وذلك قبل أن تنجلي المعركة عن انكسار الدفاعات الصربية وسقوط الموقع فى أيدي المقاتلين العرب الذين توقفت خسائرهم عند شهيد وحيد وإصابة سبعة آخرون بجراح مختلفة، فى حين كانت خسائر الجانب الصربي 23 قتيلا و36 جريحا، ناهيك عن استسلام 12 وهروب عدد آخر غير محدد.

خلال دقائق كان كل عنصر من عناصر المجاهدين يقوم بتدبير شأن مكلف به فى سرعة وهدوء وكفاءة وكأنه تدرب على ذلك عشرات المرات.

استجواب الأسرى..

دخلت أحد المباني -المكونة من طابق واحد أرضي- فرأيت المنضدة وقد وضعت عليها أكواب القهوة التي مازالت دافئة، بالإضافة إلى سجائر متروكة فى المنافض وقد أتت عليها جذوتها حتى تحولت إلى أعمدة من الرماد، وهو ما يدل على أن الهجوم كان مباغتا من جانب العرب، وغير متوقعا من جانب الصرب.

خلال دقائق كان كل عنصر من عناصر المجاهدين يقوم بتدبير شأن مكلف به فى سرعة وهدوء وكفاءة وكأنه تدرب على ذلك عشرات المرات. فعدد منهم توجه إلى مبنى بعينه لتفقد جانبا من مخازن السلاح، وآخر يقوم بتفقد أجهزة الاتصال، ومجموعة أخري تقوم بتفتيش الأسرى الـ 12 واستجوابهم بشكل سريع، ومجموعة من ستة مجاهدين يقومون بتأمين الموقع من الخارج.

بعد جولة تفقدية سريعة فى أنحاء الموقع، عاد عبد القادر لكي يجلس على المنضدة بعد أن أزاح عنها أقداح القهوة. أمر عبد القادر بإحضار أعلى رتبة من الأسرى -وكان رائدا "ميجور"- وذلك بعد أن أسند قدميه على مقعد أسفل المنضدة. بدأ عبد القادر حديثه مع الضابط الصربي بإلقاء التحية باللغة الصربية التي كان يتحدثها. وقف الضابط ينتفض أمام عبد القادر الذي أكد له إنه سيبقى على حياته وعلى حياة زملائه إذا أبدوا تعاونا كاملا، ودار الاستجواب السريع التالي:

  • اسمك؟

نيكولاي.

  • ما المدة التي قضيتها فى هذا الموقع؟

ثلاثة أشهر.

  • أين توجد مخازن السلاح الأخرى بخلاف المبنى المجاور، ولا تكذب، حيث إنني سأكتشف ذلك، وفى هذه الحالة سيكون عقابك عسيرا؟ (قالها عبد القادر مشفوعة بنظرة ارتعدت فرائصي أنا نفسي منها)

يوجد مخزن تحت الأرض على بعد 15 متر خلف المعسكر.

  • (وهنا تبدلت النظرة القاسية فى عينا عبد القادر إلى ابتسامة عريضة).
  • هذه بداية جيدة وسوف ترى نتائجها الطيبة على معاملتنا لكم. متى، وكيف تحصلون على امداداتكم سواء من الأسلحة والذخيرة أو الإعاشة؟

لدينا امداد أسبوعي لوسائل الإعاشة، أما الاسلحة والذخائر فحسب طلبنا، وغدا هو موعد تسلمنا الإعاشة الأسبوعية.

  • ليس لدى حاليا أسئلة أخرى، ولكن قبل أن تذهب، كيف ترى الهجوم الذي تعرضتم له؟ يمكنك أن تتكلم بصراحة ولا تخش أي سوء.

بصراحة أنا لم أستوعب حتى الآن أنى وقعت فى الأسر، ناهيك عن أن موقعي قد سقط.

  • أبتسم عبد القادر، وسأله: هل أي من أقداح القهوة تلك كانت لك؟
  • (أكتفى بهز رأسه علامة الإيجاب)

على الفور أمسك عبد القادر بغلاية القهوة التي وضعت على فرن مسطح بجوار المنضدة، ثم تناول القدح وألقى بما فيه من بقايا قهوة لكي يملأه من جديد ويقدمه للضابط الصربي مشجعا إياه على تناوله. لم يتردد الضابط فى تناول القدح وأخذ يعب منه بالرغم من سخونة القهوة وهو يردد باللغة الصربية: "ليس معقولا ما يحدث".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.