شعار قسم مدونات

عبر البوسنة.. تاريخ في البلقان يلد حاضرا في فلسطين (9)

تدمير الأنفاق بين سيناء وغزة ج2
اكتشفت أن كلام القائد العسكري حول ارتفاع سقف النفق وعرضه وطوله لا ينطبق سوى على بدايته فقط فكلما قطعنا شوطا انخفض سقف النفق (الجزيرة)
  • الطريق إلى زينيتسا.. في صحبة مقاتلي العرب في البلقان.
  • زيارة لتاريخ مسكوت عنه
  • أنفاق البوسنة وأنفاق غزة
  • التسلل إلى ساراييفو مع رئيس جمهورية البوسنة عبر نفق الموت!

لا أدرى كم من الوقت استغرقه ذلك الجزء من الرحلة عبر خطوط القوات الصربية في تلك الليلة الليلاءعلى حواف جبل إيجمان. فبالرغم من أن الكثيرين قد شهدوا لـ – كاتب السطور- بقوة الأعصاب، إلا أن تلك الساعات كانت كفيلة بأن تحول ما تعودت أن أفخر به من أعصاب فولاذية إلى شظايا متناهية فى الصغر.

فجأة، توقفت السيارة وقد لاح فى الظلام أشباحا تتحرك. زممت شفتي، وأنا ألعن فى سرى السائق الذي أوقعنا فى أسر القوات الصربية بعد كل ما عانيناه فى تلك الرحلة. سرعان ما طمأنني كاظم، قائلا: هؤلاء هم مقاتلينا.

ترجلنا الطريق وسرعان ما التف حولنا الرجال الذين فهمت أنهم فوجئوا بوجود شخصي الغريب فى ذلك الموقع. وبعد أن طمأنهم المدرس، التفت لي وقال: دقائق وتكون فى داخل ساراييفو.

سألت الرجل عن المكان الذي نحن فيه، فقال إن هذه النقطة تقع خلف جبل إيجمان الذي يحيط بالعاصمة البوسنوية، وبأن السر الذي على وشك أن أطلع عليه ليس سوى نفق سرى يمتد من هذه النقطة ويجرى تحت كل من جبل إيجمان ومدرج مطار ساراييفو الواقع خلفه، حتى ينتهي على مشارف العاصمة البوسنوية التي يسيطر عليها الجيش البوسنوى.

وقفت أمام مدخل النفق السري، وأنا أتساءل حول كيفية نجاح المقاتلين البوسنويين فى بناء هذا النفق وسط تلك الظروف غير المواتية، وتحت حصار وقصف صربي لا يهدأ.

السير تحت رواسي جبل أشم

وقفت مذهولا أمام مدخل النفق الذي تم تمويهه بشكل يصعب رصده. قبل أن نبدأ الرحلة الرهيبة أعاد كاظم تعليماته على مرة ثالثة، حيث قال: "هذا النفق سر عسكري مات ويموت وسيموت فى سبيله الكثيرون سواء مما قاموا بإنشائه، أو حمايته، أو ممن حاولوا إفشاء سره للصرب، وهو يعد واحدا من الشرايين القليلة جدا التي تحفظ حدا أدنى من الأوكسجين لنا فى ظل هذا الحصار الرهيب. فعبر هذا النفق نقوم بنقل السلاح للمدافعين عن ساراييفو، وعبره نحاول قدر الاستطاعة تمرير بعض مواد الإغاثة والإعاشة للمحاصرين، كما أن عبره يتنقل كبار المسئولين من وإلى العاصمة. نحن نثق بك، ولذا كشفنا لك عما هو سر الأسرار ليس فقط على صحفي ولكن عن الغالبية العظمى من مسئولينا البوسنويين. هل تفهمني؟". وأرفق العملاق سؤاله الأخير بنظرة أفهمتني المسئولية الخطيرة المترتبة على تلك الثقة المطلقة.

بعد ذلك بأيام، كان أول لقاء لي مع المذيع اللامع ونجم محطة قناة الجزيرة أحمد منصور الذي اضطر إلى سلوك نفس هذا النفق السري كي يصل إلى العاصمة ساراييفو فى مهمة صحفية لحساب مجلة المجتمع الكويتية التي كان يشغل منصب مدير تحريرها وألمع صحافييها فى ذلك الوقت. وكانت لنا سويا أياما عصيبة فى تلك المحرقة قبل أن يختتم مهمته الناجحة.

وقفت أمام مدخل النفق السري، وأنا أتساءل حول كيفية نجاح المقاتلين البوسنويين فى بناء هذا النفق وسط تلك الظروف غير المواتية، وتحت حصار وقصف صربي لا يهدأ. فالنفق يبدأ بمدخل مموه بشكل جيد، بحيث يعتقد من يراه عن بعد أنه جزء طبيعي من الجبل. يرتفع سقف مدخل النفق إلى ما يقرب من 2.5 مترا، ثم ينخفض إلى مترين قبل أن يبدأ فى الزحف إلى أسفل الجبل. نظرت إلى القائد العسكري كاظم قائلا:

  • كم يبلغ طول النفق؟

لا تقلق، إنه لا يزيد عن كيلو متر واحد. (قالها الرجل وهم يبتسم)

  • وكم يبلغ ارتفاع سقفه فى المنتصف؟

لماذا كل هذه الأسئلة؟ ارجو ألا تفكر في كتابة تحقيق عن النفق.

  • كلا بالطبع، بل ليس لدى مشكلة فى أن أفقد حياتي دفاعا عنه، ولكنني قلق إزاء قدرتي على تحمل عبوره.

ضحك القائد العسكري بشدة، وهو يربت على ظهري بقوة قائلا باللهجة المصرية: عيب على شاب مصري أن يتحدث هكذا، فأنت لها بإذن الله. لقد سمعت أنك خضت تجربة تغطية الحرب من قبل، وأنك واجهت مواقف أصعب بكثير. هيا، هيا، فلا يوجد وقت نضيعه، فالمفترض أن نصل إلى سراييفو قبل الفجر.

وصل الأمر بعد أن قطعنا ما يقرب من 300 مترا من النفق للإنحناء بشدة أثناء السير. وبطول جسم النفق، تم تعليق مصابيح صغيرة للغاية يفصل بين كل منهما مترين، لا تكاد تضئ من حولها.

نظرت لذلك العملاق متشككا فى حسن ظنه بقدرتي على عبور النفق، وخاصة أن جسدي كله كان يهتز تحت وطأة كفه الهائل وهو يربت على ظهري ضاحكا، وأنا الذي لا أعتبر نفسي صغير الحجم.

توكلنا على الله، وبدأنا الرحلة التي افتتحت بالنزول بشكل شبه عمودي تحت سطح الأرض، وذلك قبل أن يبدأ النفق فى الظهور أمامنا بشكل أفقي، وهو يلتوى بإنحناءات بعضها حاد لدرجة أنك لا ترى ما بعد هذه الانحناءة. وبعد فترة من السير، اكتشفت أن كلام القائد العسكري حول ارتفاع سقف النفق وعرضه، وطوله لا ينطبق سوى على بدايته فقط. فكلما قطعنا شوطا، انخفض سقف النفق، وضاق عرضه، وبدا وكأنه بلا نهاية.

وصل الأمر بعد أن قطعنا ما يقرب من 300 مترا من النفق للإنحناء بشدة أثناء السير. وبطول جسم النفق، تم تعليق مصابيح صغيرة للغاية يفصل بين كل منهما مترين، لا تكاد تضئ من حولها. إلا أن المشكلة لم تكمن فى انخفاض السقف، ولا ضيق عرض النفق، ولا صعوبة التنفس فقط، وإنما كان علينا أن نعانى من مشكلة إضافية، ألا وهي القضبان الحديدية التي امتدت على أرضية النفق، وقطع الخشب التي تثبتها فى الأرض "الفلنكات" والتي يتم وضع عربات فوقها لنقل السلاح والمؤن.

أيضا، فقد كان علينا أن نكافح المياه الجوفية التي اختلطت بالتربة، فحولتها إلى مزيج طيني كان علينا أن ننتزع أقدامنا منه فى كل خطوة. بعد أن قطعنا ما يقرب من الكيلو متر، أحسست بأنني أختنق. بدأت أتعثر فى "الفلنكات" الخشبية التي تصل بين قضيبي الحديد، حتى أنتهى بي الحال على أرضية النفق.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.