شعار قسم مدونات

قرار محكمة العدل الدولية.. بداية لها ما بعدها الكثير!

جلسة محكمة العدل الدولية
جلسة محكمة العدل الدولية الجمعة الماضية (الجزيرة)

في خطوة تاريخية لها ما بعدها الكثير أصدرت محكمة العدل الدولية يوم الجمعة الماضية قرارها الخاص بالتدابير الإحترازية في قضية الإبادة الجماعية التي كانت دولة جنوب أفريقيا قد رفعتها ضد إسرائيل يوم 29 ديسمبر الماضي. وتكتسب القضية بعدا رمزيا ومعنويا كبيرا، إذ إنها موجهة ضد دولة نسجت روايتها بخصوص المظلومية التاريخية والاضطهاد لكسب تعاطف العالم في جزء كبير منها على جريمة الهولوكوست وهي التي شكلت في وقت ارتكابها جريمة إبادة جماعية ضد اليهود. وكانت أعمال المحرقة والإبادة الجماعية التي تعرض لها اليهود على يد ألمانيا النازية هي المحرك الأساسي وراء توقيع اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والعقاب عليها والتي اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في 9 ديسمبر 1948، أي قبل 75 عاما من الآن، وذلك رغبة من المجتمع الدولي في منع وقوع مثل هذه الجرائم مستقبلا ومعاقبة مرتكبيها.

المحكمة في جلسة الجمعة الماضية لم تقرر في جوهر القضية، فهذه مسألة يحتاج البت فيها إلى فترة قد تمتد إلى أربع سنوات أو أكثر، إذ يكون على المحكمة أن تنظر في الدفوع والطلبات المتعددة للأطراف المشاركة في القضية.

وبعد أن أقرت المحكمة بإختصاصها في نظر القضية، رافضة دفع إسرائيل في هذا الخصوص بعدم إختصاص المحكمة بحجة عدم وجود نزاع قانوني بين إسرائيل ودولة جنوب أفريقيا، أكدت المحكمة على توافر الشروط القانونية لإصدار تدابير إحترازية مؤقتة وذلك لأن هناك مسوغات عديدة مقبولة تدفع المحكمة إلى الإعتقاد بأن جريمة الإبادة الجماعية قد ارتكبت وبالتالي إنتهاك إتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية. غير أن المحكمة لم تأمر إسرائيل صراحة بوقف إطلاق النار مثلما فعلت عام 2022 في التدابير الإحترازية في القضية التي رفعتها أوكرانيا ضد روسيا وتتهمها فيها بممارسة الإبادة الجماعية. ويلاحظ أن المحكمة الدولية أصدرت في قضيتنا هذه أوامر بتدابير إحترازية شبيهة بتلك التي أصدرتها المحكمة في القضية التي كانت غامبيا قد رفعتها عام 2019 ضد دولة ميانيمار وتتهمها فيها بإبادة أقلية الروهجينا المسلمة، وحصل هذا بالطبع بعد إدخال بعض الإضافات والتعديلات لتتناسب مع الوضع في غزة.

وينبغي القول بأن المحكمة في جلسة الجمعة الماضية لم تقرر في جوهر القضية، فهذه مسألة يحتاج البت فيها إلى فترة قد تمتد إلى أربع سنوات أو أكثر، إذ يكون على المحكمة أن تنظر في الدفوع والطلبات المتعددة للأطراف المشاركة في القضية. ومثلما جرت العادة في القضايا المنظورة أمام المحكمة ولا سيما تلك المتعلقة بجريمة الإبادة الجماعية يتطلب الأمر سقفا عاليا من الإثباتات لكي تستطيع المحكمة الجزم بأن إسرائيل قد ارتكبت بالفعل هذه الجريمة التي ينظر إليها لبشاعتها بإعتبارها أم الجرائم في القانون الدولي. أما فيما يتعلق بالتدابير الإحترازية المؤقتة فإن سقف الإثباتات المطلوبة يكون منخفضا إذا ما قورن بتلك المطلوبة عند التقرير في جوهر القضية. ولأن إختصاص المحكمة بنظر القضية يستند فقط إلى المادة 9 من إتفاقية الإبادة الجماعية، فإن المحكمة لن تكون بالتالي مختصة بالحكم في أي جرائم أخرى قد تكون ارتكبت أثناء الحرب في غزة مثل جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، إذ أن هذه الجرائم تخرج عن نطاق إختصاص المحكمة في هذه القضية. وهو ما يعني أيضا أن المحكمة ستعول بشكل كلي في حكمها في هذه القضية على عنصر النية الذي يمثل ركنا جوهريا في جريمة الإبادة الجماعية، إذ لا يكفي مجرد انتهاك قواعد القانون الدولي الإنساني من خلال ارتكاب أعمال قتل أو تدمير أو تشريد والتي قد تصنف حسب ملابساتها والسياق الذي ارتكبت فيه باعتبارها جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية. وهو ما يعني أنه لتوصيف الأفعال بأنها تشكل جرائم إبادة جماعية فلابد من أن يكون الفعل قد ارتكب بنية تدمير مجموعة قومية أو عرقية أو إثنية أو دينية معينة بشكل كلي أو جزئي وذلك حسب المادة الثانية من الإتفاقية التي تتضمن تعريفا للأعمال التي يعد ارتكابها ضد إحدى المجموعات المحمية انتهاكا للإتفاقية.

ولئن كانت محكمة العدل الدولية لم تأمر إسرائيل صراحة بالوقف الفوري للأعمال القتالية مثلما كانت جنوب أفريقيا قد طالبت في دعواها، إلا أن مطالبة المحكمة لإسرائيل بأن تمتنع عن أي أعمال قد تؤدي

إلى قتل الفلسطينيين بالمخالفة لإتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية ومطالبتها إسرائيل بتقديم تقرير في خلال شهر تستعرض فيه جهودها لمنع أي إنتهاكات للإتفاقية وبعدم إستهداف المدنيين، سيجعل من الصعب بل من المستحيل على إسرائيل الوفاء بهذه الطلبات دون وقف إطلاق النار. وقد أمرت المحكمة إسرائيل كذلك بإدخال المساعدات والإحتياجات الضرورية لشعب غزة. كما طالبت المحكمة إسرائيل بمنع خطاب الكراهية والتحريض على الإبادة الجماعية. ويشير هذا الأمر إلى أن المحكمة قد أخذت على نحو جدي تصريحات القادة الإسرائيليين في أعقاب السابع من أكتوبر 2023 بدءا من رئيس الدولة إسحاق هرتزوج ورئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف جالانت، مرورا بوزير الطاقة وغيره من المسؤولين الإسرائيليين، وهي التصريحات التي توحي بوجود النية على ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية بحق أهل غزة.

كان من اللافت للنظر أن المحكمة قد اتخذت قرارها فيما يتعلق بالتدابير الاحترازية بما يشبه الإجماع ولم يشذ عن هذا الإجماع إلا إعتراض القاضي الإسرائيلي أهارون باراك والقاضية الأوغندية جوليا سينبوتبدي التي اعترضت على جميع أوامر المحكمة، بما فيها الأمر الذي يتعلق بأن تمنع إسرائيل خطاب الكراهية والتحريض على الإبادة الجماعية

و عليه فإن قرار المحكمة يعد إنتصارا كبيرا للقضية الفلسطينية وهزيمة كبرى لإسرائيل رغم محاولتها التخفيف من وطأته و تفسيره بشكل يسمح لها بمواصلة الأعمال القتالية ضد الفلسطينيين و لإدعاء بأنها تمارس بذلك حقها الأصيل في الدفاع عن النفس، وهو إدعاء باطل لأنها بإعتبارها قوة إحتلال لا تمتلك هذا الحق في مواجهة الشعب الفلسطيني المحتل. وحتى لو سلمنا بتمتع إسرائيل بهذا الحق، فإنه يتحتم عليها أن تمارسه في إطار مبدأي الضرورة والتناسب، ومع الإلتزام بقواعد القانون الدولي الإنساني، وهو ما لم تفعله إسرائيل في حربها الحالية في غزة.

إن قرارات محكمة العدل الدولية ملزمة لجميع الدول الأطراف وهي نهائية ولا يجوز الطعن عليها ويمكن اللجوء إلى مجلس الأمن الدولي في حالة عدم قيام دولة بالإلتزام بها، وهو الأمر الذي تتجه إليه النية حاليا في هذه القضية. وفي أعقاب قرار المحكمة وبعد أن أصبحت إسرائيل متهمة رسميا بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، سيكون من الصعب على أي دولة دعم إسرائيل في حربها ضد غزة لأنها ستصبح في هذه الحالة شريكة في الجريمة. كما أن إسرائيل نفسها باتت في قفص الإتهام وأصبح لزاما عليها أن تظهر للمحكمة وللعالم أنها لا ترتكب جرائم إبادة أو جرائم حرب ضد الفلسطينيين.

وكان من اللافت للنظر أن المحكمة قد اتخذت قرارها فيما يتعلق بالتدابير الاحترازية بما يشبه الإجماع ولم يشذ عن هذا الإجماع إلا إعتراض القاضي الإسرائيلي أهارون باراك والقاضية الأوغندية جوليا سينبوتبدي التي اعترضت على جميع أوامر المحكمة، بما فيها الأمر الذي يتعلق بأن تمنع إسرائيل خطاب الكراهية والتحريض على الإبادة الجماعية والذي يعد في حد ذاته جريمة من وجهة نظر القانون الدولي. كما اعترضت على الأمر الخاص بأن تضمن إسرائيل إدخال المساعدات الإنسانية إلى غزة، بينما وافق القاضي الإسرائيلي على هذين المطلبين. وهذ أمر مثير للإستغراب حقا أن تعترض القاضية الأوغندية على هذين المطلبين.

إن إدانة إسرائيل بسبب الإبادة الجماعية التي ترتكبها في غزة لن يكون له فقط آثار سياسية واقتصادية وقانونية شديدة الوطأة على إسرائيل، بل إنه سيكون كذلك بمثابة خدمة للإنسانية جمعاء. إذ أن مثل هذه الإدانة من أعلى محكمة دولية ستحيي في حالة حدوثها الأمل في نفوس المستضعفين والمضطهدين في وجود عدالة دولية. وإن مثل هذه الإدانة ستكون أيضا لطمة على وجه قوى الاستكبار الغربي التي تدعي حرصها على حقوق الإنسان،  لكنها تدعم الكيان الصهيوني في ارتكاب جريمة الجرائم في القانون الدولي، كما أنها ستكون كذلك شهادة عار سيحصل عليها كل من تواطأ أو تآمر أو تخاذل أو صمت من حكام العرب على ما يحدث في غزة رغم قدرته على الفعل لمنع حدوث أو استمرار تلك الجريمة التي يندى لها جبين الإنسانية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.