شعار قسم مدونات

ابن بطوطة في فلسطين.. كبيرة المقدار مشرقة الأنوار

بين أروقة الساحة الخارجية للمسجد العمري الكبير، وسط مدينة غزة، يجلس الشيخ الفلسطيني نادر المصري في حلقة لتعليم قراءة القرآن، منذ أول أيام شهر رمضان المبارك. المصري (70 عاما)، وهو محاضر شرعي في المسجد العمري، يواظب منذ أكثر من 42 عاما، على التردد إليه، للصلاة وتقديم الدروس الشرعية متطوعا للمصلين. ويعدّ "العمري"، الذي أسس قبل أكثر من 1400 عام، من أكبر وأعرق مساجد غزة، وثالث أكبر مسجد في فلسطين بعد المسجدين الأقصى وأحمد باشا الجزار في عكا، ويوازيه بالمساحة جامع المحمودية في يافا. وفي شهر رمضان، يزداد إقبال المصلين على "المسجد العمري"، الذي يطلق عليه بعض سكان غزة اسم "المسجد الأقصى الصغير"، وذلك لتشابهه مع المسجد الأقصى المبارك في مدينة القدس المحتلة. ( Ali Jadallah - وكالة الأناضول )
المسجد العمري الكبير وسط مدينة غزة (وكالة الأناضول)

وصف العالم المحقق عبد الهادي التازي (ت 2015) رحلة ابن بطوطة الشهيرة أنها حدث فريد من نوعه، ربط تاريخ المغرب لأول مرة بتاريخ العالم، وكانت من أسباب استمرار اسم السلطان أبي عنان والسلطة المرينية الحاكمة خالدا عبر التاريخ، وقد أحسن السلطان صنعا عندما أصدر أمره للكاتب محمد بن جزي الكلبي الغرناطي لتحرير رحلة ابن بطوطة سماعا عنه، ثم إعطاءه الأمر بانتساخها وتمكين المغاربة من قرائتها، وتداول خبرته الرحلية وجوهر فوائده السفرية.

والمطالع لنص هذه الرحلة الماتعة النافعة المسماة "تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار"؛ يستوقفه كم هائل من المعلومات والأحداث والمواقع الجغرافية وأسماء الأعلام، ويستفيد من معجم ضخم تضمن أسماء الأتربة والأطعمة والأشربة والعادات والتقاليد والثقافات والأحوال السياسية وغيرها، ويلمس في شخصية أبي عبد الله بن بطوطة تلك المهارة البارعة في الجمع بين رصيد عظيم من المعارف، وتجربة غنية في العيش والثقافة والاجتماع البشري، واتصال مكثف بأرباب الفكر والفقه والتصوف والأدب والسياسة والملك وعوالم الشعوب، عبر خريطة جغرافية امتدت من طنجة التي غادرها يوم الخميس 2 رجب 725 هجرية، الموافق لسنة 1322، على عهد السلطان عثمان بن يعقوب المريني،  إلى ما وراء الصين، فكان بحق كما وصفه الكاتب الأديب ابن جزي الغرناطي "جواب الأرض، ومخترق الأقاليم بالطول والعرض".

في مدينة الخليل التي ما تزال إلى يومنا هذا تحمل نفس الاسم؛ زار ابن بطوطة قبور أنبياء الله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق، وزار مكانا مرتفعا من المدينة يعرف بتربة لوط عليه السلام

من غزة إلى الأقصى.. مشاهد وفوائد

بعد سفرته الطويلة بحرا وبرا صوب أرض الحجاز وأداء فريضة الحج وزيارة قبر الرسول في المدينة المنورة؛ عرج ابن بطوطة على بلاد الشام، وسرته أرض فلسطين، فخلد في رحلته "تحفة النظار" ما شاهده في الأمصار والعمائر التي قطعها في وجهته صوب القدس الشريف، فحيث سار حتى وصل "إلى مدينة غزة، وهي أول بلاد الشام مما يلي مصر، متسعة الأقطار كثيرة العمارة، حسنة الأسواق، بها المساجد العديدة، ولا سور عليها" (تحفة النظار، ص: 239)، ومنها توجه الرحالة صوب الخليل، وهي "مدينة صغيرة المساحة، كبيرة المقدار، مشرقة الأنوار، حسنة المنظر، عجيبة المخبر، في بطن واد، ومسجدها أنيق الصنعة بديع الحسن، سامي الارتفاع، مبني بالصخر المنحوت" (نفسه، ص: 240).

في مدينة الخليل التي ما تزال إلى يومنا هذا تحمل نفس الاسم؛ زار ابن بطوطة قبور أنبياء الله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق، وزار مكانا مرتفعا من المدينة يعرف بتربة لوط عليه السلام، يطل على الشام ويضم قبر نبي الله لوط، وفي محيطها صلى في مسجد "اليقين، وهو على تل مرتفع له نور وإشراق ليس لسواه، ولا يجاوره إلا دار واحدة يسكنها قيمه" (نفسه، ص: 243).

وفي الطريق الرابطة بين الخليل والقدس الشريف، يصور لنا الرحالة المغربي جغرافية وطبيعة قرى ومدن أخرى، ذكر منها؛ تربة يونس عليه السلام ومسجد القرية، ومدينة بيت لحم، فمدينة القدس؛ "البلدة الكبيرة المنيفة بالصخر المنحوت" (نفسه، ص: 244).

وعلى غرار سابقيه من العلماء والرحالة والحجاج الذين ألفوا في مدائح المدينة المقدسة وذكر عمرانها ومكانتها وجغرافيتها وسكانها ورباطاتها ومن قطنها من المجاهدين والمرابطين والصالحين؛ يتوقف المؤرخ الرحالة ابن بطوطة مليا عند شواهد معمارية خالدة في مدينة القدس، على رأسها المسجد الأقصى المبارك، وقبة الصخرة، وحائط البراق، وكنيسة القيامة، وباقي الأماكن الروحية والدينية.

من المآثر الروحية والمنشآت الدينية التي زارها ووصفها بتفصيل؛ ضريح السيدة رابعة البدوية، وكنيسة يعظمها النصارى ويقولون "إن قبر مريم عليها السلام بها"

مساجد ومعابد.. التغني بجمال القدس

ففي غير مبالغة -وهو الشاهد الجائل الذي رأى وزار كبريات المساجد عبر العالم آنذاك- يصف ابن بطوطة المسجد الأقصى المبارك بأنه من "المساجد العجيبة الرائقة الفائقة الحسن، ليس على وجه الأرض مسجد أكبر منه (..) له أبواب كثيرة في جهاته الثلاث (..) والمسجد كله فضاء غير مسقف، إلا المسجد الأقصى فهو مسقف في النهاية من إحكام العمل وإتقان الصنعة، مموه بالذهب والأصبغة الرائقة" (نفسه، ص: 246).

أما قبة الصخرة فقد أثارت إعجاب رحالتنا، بحيث ألفاها من "أعجب المباني وأتقنها وأغربها شكلا (..) قائمة على نشز في وسط المسجد، يصعد إليها في درج رخام، ولها أربعة أبواب، والدائر بها مفروش بالرخام محكم الصنعة، وكذلك داخلها، وفي ظاهرها وباطنها من أنواع الزواقة ورايق الصنعة ما يعجز الواصف، وأكثر ذلك مغشى بالذهب، فهي تتلألأ نورا وتلمع لمعان البرق، يحار بصر متأملها في محاسنها، ويقصر لسان رائيها عن تمثيلها. وفي وسط القبة؛ الصخرة الكريمة (..) تحتها مغارة في مقدار بيت صغير (..) وعلى الصخرة شباكان إثنان محكما العمل يغلقان عليها" (نفسه، ص: 247، بتصرف شديد)، واستطرد بدقة متناهية ونقل أمين في وصف أسفل وأعلى القبة ومداخلها وأبوابها وجبصها وزخارفها وما إلى ذلك.

ومن المآثر الروحية والمنشآت الدينية التي زارها ووصفها بتفصيل؛ ضريح السيدة رابعة البدوية، وكنيسة يعظمها النصارى ويقولون "إن قبر مريم عليها السلام بها"، وكنيسة أخرى يحج إليها النصارى وهي كنيسة القيامة، وموضع مهد نبي الله عيسى عليه السلام.

وبعد مقام كريم في مدينة القدس، ارتحل ابن بطوطة إلى عسقلان، فوجدها خرابا "قد عاد رسوما طامسة، وأطلالا دارسة"، إلا أنها قد حازت جمال الجمع بين البر والبحر، وبها مسجد كبير يعرف بمسجد عمر "لم يبق منه إلا حيطانه" (نفسه، ص: 252)، وبئر اشتهرت لدى العامة ببركتها يسمونها بئر إبراهيم عليه السلام، وبالمدينة من قبور "الشهداء والأولياء ما لا يحصر لكثرته" (نفسه، ص: 254).

توجه ابن بطوطة صوب الرملة؛ وهي مدينة كبيرة كثيرة الخيرات على ذلكم العهد، حسنة الأسواق، وبها الجامع الأبيض. ومنها انتقل إلى نابلس، المدينة المخضرة الكثيرة الأشجار المطردة الأنهار، قال عنها أنها "أكثر بلاد الشام زيوتا، ومنها يحمل الزيت إلى مصر ودمشق، وبها تصنع حلواء الخروب". ومنها عرج إلى بحيرة طبرية حيت قضى ليلة هناك وزار قبر الصحابي الجليل فاتح الشام والفرات وجزء من آسيا الصغرى؛ أبو عبيدة بن الجراح (ت 18ه /639م)، كما زار قبر الصحابي الجليل معاذ بن جبل في منطقة القصير، ثم جال في حاضرة طبرية مستمتعا ب"حماماتها العجيبة"، ومسجدها المعروف ب"مسجد الأنبياء، فيه قبر شعيب عليه السلام وابنته زوج موسى الكليم عليه السلام، وقبر سليمان عليه السلام، وقبر يهودا، وقبر روبيل" (نفس المرجع، ص: 260)،كما زار المنطقة التي كانت تضم الجب الذي ألقي فيه سيدنا يوسف عليه السلام، وهو "في صحن مسجد صغير وعليه زاوية، والجب كبير عميق شربنا من مائه المجتمع من ماء المطر" (نفسه، ص: 260) يقول ابن بطوطة.

واصل الرحالة المغربي جولاته بأرض الشام، مارا على عكا وصور وصيدا وبيروت وسهل البقاع وطرابلس وحصن الأكراد، فمدينتا حمص وحماة، وصولا إلى المعرة وحلب واللاذقية ودمشق العظيمة.

ما تزال كثير من معالم القدس وغزة والرملة وعسقلان ونابلس؛ الدينية والحضارية والمعمارية والدفاعية -الأسوار والأبواب والحصون- ماثلة للعِيان إلى عصرنا الحالي، مترجمة صدق ما نقله إلى الرحالة المغاربة من سالف القرون وغابر الأزمان.

ملاقاة العلماء ومجالسة الصلحاء

كباقي الأقطار التي زارها؛ لم يفوت الشيخ الرحالة ابن بطوطة في فلسطين فرصة التعرف على نخبتها العلمية والدينية وكبار سلك القضاء فيها، فمن غزة إلى طبرية، التقى خيرة العلماء وحاور الفقهاء واستفرد بالصلحاء؛ ذكر من الأعلام الفلسطينيين العالم والقاضي بدر الدين السلختي الحوراني، والمدرس السيد علم الدين بن سالم، والإمام برهان الدين الجعبري، والخطيب عماد الدين النابلسي، والمحدث المفتي شهاب الدين الطبري، ومدرس المالكية أبو عبد الله محمد بن مثبت الغرناطي، والشيخ الزاهد أبو علي حسن المعروف بالمحجوب، والشيخ الصالح كمال الدين المراغي، والإمام العابد أبو عبد الرحيم عبد الرحمن بن مصطفى، والفقيه تاج الدين الرفاعي، ومجد الدين النابلسي..، إلا أن ابن بطوطة لا يحدثنا في هذه الجولة الشامية عن أخذه إجازات علمية عن العلماء الذين التقى بهم، على شاكلة ما استفاده في هذا الباب أثناء مقامه بمصر والحجاز على سبيل المثال.

هذه إضاءات عن أرض فلسطين، مهوى أفئدة المؤمنين من الديانات الثلاث، ومسرى رسول الإسلام عليه الصلاة والسلام، وأولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، تنزلت منزلة العشق في قلوب الحجاج والعلماء والطلبة والمجاهدين والرحالة المغاربة منذ انتمى المغرب الأقصى إلى حضارة الإسلام؛ يقدمها لنا الرحالة ابن بطوطة، الذي أثر عنه الصدق والإسناد العالي في نقل المعطيات ووصف الأمكنة التي زارها، وهو شيخ أدب الرحلة وكهلها وفتاها وأنبغ جغرافيي المغرب الأقصى ومستكشفي العالم في العصر الوسيط.

وما تزال كثير من معالم القدس وغزة والرملة وعسقلان ونابلس؛ الدينية والحضارية والمعمارية والدفاعية -الأسوار والأبواب والحصون- ماثلة للعِيان إلى عصرنا الحالي، مترجمة صدق ما نقله إلى الرحالة المغاربة من سالف القرون وغابر الأزمان.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.